المسألة البرجوازية المصرية

يعرف المصريون مدينة الرحاب بأنها مكان راقٍ يسكنه أصحاب الملايين، لكنها الآن أصبحت معروفةً بحدث آخر هو "جريمة الرحاب"، حيث استدرجت فتاةٌ خطيبها إلى منزلها، وهناك قتله والدها، خوفاً من أن يفضح تورّطه بقضايا جنائية قديمة، ثم دفنه في حفرةٍ أعدّها في المنزل، ثم قام بتركيب بلاط الأرضية. وبعد نشر صور الفتاة، ازدادت الصدمة، فهي تمتلك حساباً على "أنستغرام"، يُظهر مدى جمالها وأناقتها. وهكذا تكرّر استنكار أن "ولاد الناس" يمكن أن يحدث منهم ذلك.

هذا ما يحيل إلى ضلالاتٍ تصوّر هذه الطبقة عن نفسها وما حولها، فالجريمة حكرٌ على الرعاع من أبناء الفئات الشعبية والفقيرة، على الرغم من أن مدينة الرحاب نفسها أنشأها رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى، وهو الذي أرسل قاتلاً مأجوراً كان ضابط أمن دولة سابق إلى الفنانة سوزان تميم ليقتلها في دبي، وهو ما أدّى به إلى السجن حتى خرج أخيرا في عفوٍ سمح له بمواصلة حياته كأن شيئاً لم يكن، رحّب به سكان مشاريعه، وظهر مع الوليد بن طلال، بل ظهر بعدها خلف الرئيس عبد الفتاح السيسي في أحد مؤتمراته!

ليست هذه ظاهرة حديثة، فقد عدّد المحاضر في الجامعة الأميركية، أشرف الشريف، وقائع كثيرة شهيرة لجرائم هذه الطبقة عبر العقود الأخيرة، مذكّراً متابعيه بوقائع، مثل جريمة "أركاديا مول" (قتل صاحب شركة استيراد وتصدير رجل أعمال في العام 2001)، أو "فضيحة لوسي أرتين" (اتصالات هاتفية بين سيدة أعمال وشخصيات رفيعة في الحكم، عام 1993).

جانب آخر من هذه الضلالات هو تصوّر أن مصدر هذه الأموال هو الاجتهاد الذاتي، أما باقي الرعاع فهم فقراء، لأنهم كسالى لا يعملون، على الرغم من أن البرجوزاية المصرية تحديدا، للمفارقة، لم تنتج عن تراكم رأسمالي طبيعي.

ولعل العودة طويلاً في التاريخ تذهب بنا إلى مرحلة محمد علي باشا الذي جاءت به نخب مصرية، يقودها علماء الأزهر وكبار التجار وملاك الأراضي، لكنه تعلم من رأس الوالي العثماني الطائر، فأنشأ الجيش النظامي الحديث، للمرة الأولى في الشرق، وبهذه القوة الكاسحة سحق من صعدوا به، ثم أصدر قراراً بمصادرة كل الأراضي الزراعية في مصر لتصبح ملكاً للباشا وحده.

لاحقاً في عهد أسلافه، وبشكل خاص الخديوي إسماعيل، تم السماح بعودة الملكية الخاصة بشكل محدّد، حيث وُزعت الأراضي على كبار العائلات الموالية، التي كان عديد منها من غير المصريين أصلاً، ثم لاحقاً نشأت عائلات كبرى أيضاً إثر جولة توزيع أخرى للمغانم على من تعاونوا مع الاحتلال البريطاني ضد "عصيان عرابي".

وعلى الرغم من أن البرجوازية المصرية حاولت العودة إلى الحياه برأسمالية وطنية في النصف الأول من القرن العشرين، وأصبحت لدينا بذرة لرجال صناعة واقتصاد وطنيين، وفي مقدمتهم طلعت حرب باشا، إلا أن ثورة 1952 سحقتها بالتأميمات. وعلى الجانب الآخر، وزعت أراضي الإقطاعيين على الفلاحين. وعلى الرغم من إيجابية ذلك من زاوية العدالة، إلا أن تفتيت الملكيات منع قيام رأسمالية وطنية.

أخيراً، جاءت المرحلة الثالثة في عهد الرئيس أنور السادات بعد "الانفتاح"، لنشهد عملية الإثراء السريع لفئات قريبة من السلطة بعمليات منح التوكيلات الأجنبية، وتراخيص الاستيراد، وهو ما استمر في عهد حسني مبارك، عبر خصخصة ممتلكات الدولة، وعبر تخصيص الأراضي، فضلاً عن فئات أخرى، اكتسبت ثرواتها من العمل في دول الخليج.

لا عجب، والحال هكذا، أن تخلو هذه الطبقة من الطمع بالتمثيل السياسي المستقل، كما فعلت قريناتها في العالم، حيث كانت نشأة الديمقراطية في إنكلترا و"الماغناكارتا" مرتبطةً بتكتل طبقة النبلاء ضد الملك. وبالمثل، حدث حراك شبيه قبل الثورة الفرنسية، بينما لدينا تكاد لا توجد سوى التجربة المجهضة لنجيب ساويرس، ولعل لهذا علاقة بأصوله، فوالده كان من برجوزاية ما قبل ثورة 1952. بل إن مجرد الصعود كشريك في السلطة القائمة، كما حدث في لجنة السياسات في الحزب الوطني الديمقراطي برئاسة نجل مبارك، أسفر عن ضربة ساحقة من الجيش لهؤلاء المتطفلين.

وهكذا تبقى مسألة البرجوازية المصرية واحدةً من الاختلالات الهيكلية التي تعرقل أي تحوّل ديمقراطي جذري في البلاد.