العدد 1535 /2-11-2022

بقلم : صلاح الدين الجورشي

شاركت بروما في مؤتمر دولي جمع القادة الدينيين من مختلف الديانات والمذاهب. وفي إحدى ورشات هذه التظاهرة الكبرى، تعرّض شاب إلى ما تواجهه النساء في العالم من انتهاكات لحقوقهن، وتوقف عند الحالة الإيرانية. وطلب الإذن من المشاركين والمشاركات بالوقوف نصف دقيقة صمت، تضامنا مع النساء الإيرانيات في نضالهن ضد القانون الذي يفرض عليهن منذ نصف قرن ارتداء الحجاب في الفضاء العام، وهو ما أدّى، أخيرا، إلى موت الفتاة الكردية مهسا أميني، وانجرّت عنه احتجاجات ضخمة مناهضة للنظام، سرعان ما انتقلت إلى عدة مدن أخرى، وأدّت إلى سقوط مزيد من الضحايا. واللافت للنظر أن جميع من كانوا في القاعة استجابوا من دون نقاش لهذا الطلب، ومنهم علماء شيعة.

صحيحٌ أن إيران تواجه منذ ثورتها الكبرى عام 1979 حصارا أميركيا بسبب اختياراتها السياسية، بما في ذلك مسعاها نحو امتلاك السلاح النووي، لكن ذلك لا يعفيها من أنها ملزمة باحترام حقوق الإنسان والحريات الشخصية لمواطنيها ومواطناتها. فما يحدث حاليا بسبب سياسة فرض الحجاب على النساء لم يعد مقنعا، حتى لعدد يزداد تدريجيا من علماء الشيعة وغيرهم.

كان لحمل "التشادور" ما يبرّره عندما كان من أشكال مقاومة نظام الشاه الدكتاتوري الذي عمل على حمل الإيرانيات بالقوة على التخلص منه، سعيا نحو تطبيق سياسة التحديث القسري للمجتمع. ولكن السلطة الجديدة، بعد نجاح الثورة، قرّرت إلزام النساء بارتداء الحجاب، اعتقادا منها بأنه من هوية الدولة والمجتمع، ولا تزال حركة طالبان تصرّ عليه في أفغانستان. وبدل أن تترك السلطات الإيرانية حرية لبس التشادور باعتباره ضمن الحريات الفردية، حوّلته إلى فرض، وسيّجته بقانون تترتب عنه عقوبة، وكلفت شرطة حماية الأخلاق بالقيام بتطبيقه وملاحقة النساء اللاتي لا يلتزمن بارتدائه حرفيا، فترتبت عن هذا القرار الخاطئ نتائج اجتماعية وسياسية وعقائدية خطيرة، أضعفت شرعية السلطة، وتحول الأمر تدريجيا إلى أحد المبرّرات الرئيسية للتمرّد على النظام، وتحشيد الخصوم في الداخل والخارج من أجل توسيع دائرة المعارضة ومهاجمة السلطة بقوة.

بعد نصف قرن من عمره، يمكن القول إن النظام فشل في إقناع الأجيال الإيرانية الجديدة بأيديولوجيته الدينية المحافظة والمضيقة مجال الحريات، فبعد القراءة الثورية لدور الدين في عملية إطاحة النظام الشاهنشاهي، وهي القراءة التي تمكّنت من تعبئة مختلف الطبقات والفئات، وخصوصا فئة الشباب، ونجحت في إيجاد كتلة شعبية صلبة في وجه الأجهزة القمعية لـ"السافاك"، انقلبت الصورة اليوم بعدما تعمّقت الفجوة بين السلطة الدينية الحاكمة وشباب مختلف كان يأمل في إسلام مرن، يفتح له مزيدا من الآفاق ويحترم إرادته وخصوصياته، وهو ما جعله يندفع نحو التمرّد على النظام، وعلى منظومته الفكرية والأيديولوجية. فعديد الشخصيات الإيرانية التي تتمتع بالمصداقية، بمن في ذلك علماء كبار، تقرّ بوجود أزمة تديّن في إيران، وأن الإلحاد يتفشّى بشكل سريع. هناك قوانين تؤطّر حركة الإنسان والمجتمع، من بينها أنه عندما تُفرض الأفكار بقوة الدولة والسلطة، يتضاءل الإيمان بها في صفوف السكان، وبالأخص في صفوف الشباب، كما تفقد تلك الأفكار بريقها وقدسيّتها، حتى لو اصطبغت تلك المفاهيم بالدين ونصوصه. وهو ما جعل بعض المراجع الدينية تعترض على هذه السياسة، وتدعو إلى التخلي عنها، حتى لا تتعمّق المسافة بين الدين والشباب المتعطش للحرية المصادرة باسم الإسلام.

مع تراجع الحركة الإصلاحية التي فقدت زخمها وضعفت قدراتها على الاستمرار، فقدت الحياة السياسية والدينية حيويتها، وفقد الصراع السلمي شيئا من روحه وجدواه. يعود ذلك إلى فشل الإصلاحيين في إدارة السلطة، ولم يصمُدوا في وجه الحصار الذي ضربه حولهم المحافظون سنوات طويلة. لهذا تراجعت التعدّدية وتقلصت جدوى الصراع الفكري والسياسي، في حين يعتبر القرآن أنه "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض".