2- للدكتور يوسف القرضاوي

القدس جزء من أرض فلسطين، بل هي غرة جبينها، وواسطة عقدها، ولقد وصف الله هذه الأرض بالبركة في خمسة مواضع في كتابه.
أولها: في آية الإسراء حين وصف المسجد الأقصى بأنه «الذي باركنا حوله».
وثانيها: حين تحدث في قصة خليله إبراهيم، فقال: >ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين< الأنبياء: 71.
وثالثها: في قصة موسى، حيث قال عن بني إسرائيل بعد إغراق فرعون وجنوده: >وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها، وتمّت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا< الأعراف: 137.
ورابعها: في قصة سليمان وما سخر الله له من ملك لا ينبغي لأحد من بعده، ومنه تسخير الريح، وذلك في قوله تعالى: >ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها< الأنبياء: 81.
وخامسها: في قصة سبأ، وكيف منّ الله عليهم بالأمن والرغد، قال تعالى: >وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة، وقدّرنا فيها السير، سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين< سبأ: 18، فهذه القرى التي بارك الله فيها هي قرى الشام وفلسطين. قال المفسر الآلوسي: المراد بالقرى التي بورك فيها: قرى الشام، لكثرة أشجارها وثمارها، والتوسعة على أهلها، وعن ابن عباس: هي قرى بيت المقدس.
وقد ذهب عدد من مفسري القرآن من علماء السلف والخلف في قوله تعالى: >والتين والزيتون، وطور سنين، وهذا البلد الأمين< التين: 1-3، إلى أن التين والزيتون يقصد بهما الأرض أو البلدة التي تنبت التين والزيتون، وهي بيت المقدس.
قال ابن كثير: قال بعض الأئمة: هذه محالّ ثلاثة بعث الله من كل واحد منها نبيّاً مرسـلاً من أولي العزم، أصحاب الشرائع الكبار، فالأول: محل التين والزيتون، وهو بيت المقدس، الذي بعث الله فيه عيسى ابن مريم عليهما السلام، والثاني: طور سيناء، الذي كلم الله عليه موسى بن عمران، والثالث: مكة، وهي الأمين الذي من دخله كان آمناً؛ وبهذا التفسير أو التأويل، تتناغم وتنسجم هذه الأقسام، فإذا كان البلد الأمين يشير إلى منبت الإسلام رسالة محمد، وطور سينين يشير إلى منبت اليهودية رسالة موسى، فإن التين والزيتون يشير إلى رسالة عيسى، الذي نشأ في جوار بيت المقدس، وقدم موعظته الشهيرة في جبل الزيتون.
أرض الرباط والجهاد
القدس عند المسلمين هي أرض الرباط والجهاد، فقد كان حديث القرآن عن المسجد الأقصى، وحديث الرسول عن فضل الصلاة فيه، من المبشرات بأن القدس سيفتحها الإسلام، وستكون للمسلمين، وسيشدّون الرحال إلى مسجدها، مصلين لله متعبدين.
وقد فتحت القدس -التي كانت تسمى إيلياء- في عهد الخليفة الثاني في الإسلام عمر بن الخطاب، واشترط بطريركها الأكبر صفرونيوس ألا يسلم مفاتيح المدينة إلا للخليفة نفسه، لا لأحد من قواده، وقد جاء عمر من المدينة إلى القدس في رحلة تاريخية مثيرة، وتسلم مفاتيح المدينة، وعقد مع أهلها من النصارى معاهدة أو اتفاقية معروفة في التاريخ باسم «العهد العمري» أو «العهدة العمرية» أمنهم فيها على معابدهم وعقائدهم وشعائرهم وأنفسهم وأموالهم، وشهد على هذه الوثيقة عدد من قادة المسلمين، أمثال: خالد بن الوليد، وعبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان.
وقد أعلم الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن هذه الأرض المقدسة سيحتلها الأعداء، أو يهددونها بالغزو والاحتلال، وبهذا حرّض أمته على الرباط فيها، والجهاد للدفاع عنها حتى لا تسقط في أيدي الأعداء، ولتحريرها إذا قدّر لها أن تسقط في أيديهم. كما أخبر عليه الصلاة والسلام بالمعركة المرتقبة بين المسلمين واليهود، وأن النصر في النهاية سيكون للمسلمين عليهم، وأن كل شيء سيكون في صف المسلمين حتى الحجر والشجر، وأن كلاً منهما سينطق دالاً على أعدائهم، سواء كان نطقاً بلسان الحال أو بلسان المقال. وقد روى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوّهم قاهرين، لا يضرّهم من جابههم، إلا ما أصابهم من لأواء (أي أذى) حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك»، قالوا: وأين هم يا رسول الله؟ قال: «ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس».}