مؤمن بسيسو

يخطئ من يظن أن الصراع الدائر بين حماس وإسرائيل هو صراع حربي يتصل بأشكال الحرب والعدوان المعروفة ميدانياً فحسب، بل إن الصراع الحربي الذي يلتهب به الميدان يشكل نتاجاً للصراع الاستخباري القائم بين الطرفين، الذي تعمل فيه العقول والأدمغة وما تسخره من وسائل وأدوات، بشكل خفي لا يمكن إدراك خطورته وتحسس قيمته إلا لأصحاب الشأن وأهل الوعي الأمني الرفيع.
من هنا يمكن الجزم بأن الصراع بين حماس وإسرائيل هو صراع استخباري شرس وخفي في المقام الأول، رغم فارق القدرة والإمكانيات بين الطرفين.
تطور حماس الاستخباري
اجتهدت حماس في الجانب الاستخباري فترة طويلة، لكن ضعف الخبرات المطلوبة جعلها مسرحاً للفعل الإسرائيلي في معظم الأحيان، رغم تمكن الحركة من إيلام الاحتلال وتحقيقها أحياناً إنجازات هامة.
«تجسدت قدرات الجهاز الاستخباري التابع لحماس أوضح ما يكون في حربي عام 2012 و2014، إذ فوجئت المستويات السياسية والعسكرية والأمنية في إسرائيل بالتطور الاستخباري لدى حماس مما أسهم في إرباك بعض المخططات العسكرية الإسرائيلية، ومنح حماس القدرة على ضرب أهداف مختلفة داخل إسرائيل».
لم تنشئ حماس جهازاً استخبارياً متخصصاً في السابق، وتركز جلّ نشاطها المعلوماتي على ما توفره أجهزتها الأمنية من معلومات ومعطيات لا ترقى إلى المستوى المهني الاحترافي.
وفي الأعوام الأولى لانتفاضة الأقصى (اندلعت عام 2000) أدركت حماس حاجتها الماسة إلى بناء جهاز استخبارات قوي يعمل وفق قواعد مهنية ومعايير احترافية، وشرعت في بنائه من الصفر بإمكانيات متواضعة.
وأخذت في تطوير جهازها تدريجياً وتزويده بالكوادر المؤهلة والاستفادة من العبر والدروس الميدانية (وأهمها حرب 2008 و2009)، إلى أن أصبح لديها جهاز استخباري جيّد يمكن الوثوق به والاعتماد على تقديراته الاستراتيجية في بناء المواقف وصناعة القرار السياسي والأمني والاستراتيجي.
تحيط حماس جهاز استخباراتها بسرية ملحوظة، إلا أن ما يرشح من معلومات ينم عن اهتمام شديد لدى الحركة بتطوير قدراتها الاستخبارية في ظل إدراكها أن مدى نجاحها في عملها الاستخباري ينعكس تلقائياً على قدرتها في التصدي للمخططات الإسرائيلية التي تستهدفها، ويتيح لها هامشاً واسعاً لمواجهة أي حرب قد تشنها إسرائيل مستقبلاً.
ومع اقتراب الذكرى الثالثة لحرب عام 2014 تزايدت المؤشرات على تطور استخباري لافت لدى حماس، إلا أن اغتيال الشهيد مازن فقها في آذار الماضي وضع الحركة وأجهزتها الأمنية -وفي مقدمتها جهازها الاستخباري- في موقف بالغ الصعوبة والحرج والحساسية.
صراع استخباري شرس
لم يتوقف الصراع الاستخباري بين حماس وإسرائيل في يوم من الأيام، إلا أنه عاد أكثر شراسة إلى واجهة الأحداث مجدداً عقب اغتيال الشهيد مازن فقها، وهو أحد الأسرى المحررين في صفقة جلعاد شاليط عام 2011، وتتهمه إسرائيل بالوقوف والإشراف على النشاط العسكري لكتائب القسام في الضفة الغربية.
وفي إطار تحليل عملية الاغتيال؛ يتضح أن العملية لم تتقصّد اغتيال قائد عسكري كبير لحماس فحسب، بل إن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أرادت إرسال بعض الرسائل الخطرة والحساسة إلى قيادة حماس السياسية والعسكرية والأمنية، ومن بينها رسالة استخبارية بالغة الأهمية.
وما يميز استخبارات حماس هو تحلّيها بمنظومة واضحة من الإرادة والعزم، والإصرار المتواصل على تطوير الذات والأدوات والارتقاء بالعمل والأداء، وهو ما يجعل تخوف إسرائيل من ردة فعل حماس على عملية الاغتيال أمراً مشروعاً وفي محله تماماً.
تدرك إسرائيل أن حماس لن تنجح في الرد على عملية اغتيال فقها بمعزل عن المعلومات والجهد الاستخباري الدقيق، وتبعاً لذلك فهي تتابع كل شاردة وواردة، وتراجع باستمرار منظومة الأمن والاحتياطات المتخذة، وترصد كل حرف يصدر عن حماس بكل مستوياتها.
قدرات حماس الاستخبارية
من الصعوبة بمكان وضع الإمكانيات والقدرات الاستخبارية لحماس في مقابل الإمكانيات والقدرات الاستخبارية الإسرائيلية، فالدولة العبرية تملك أدوات وخبرات استخبارية عالية على مستوى الإقليم والعالم، ولا يمكن لحركة بحجم حماس أن تضاهيها قوة وتأثيراً، سواء على المستوى المعلوماتي أو العملياتي.
ويمكن تبيان أهم مظاهر القدرة الاستخبارية لدى حماس في ما يلي:
أولاً: جمع وتحليل المعلومات: فقد أثبت الجهاز الاستخباري لحماس قدرة هامة حين تولى جمع معلومات دقيقة ومركزة عن الجيش الإسرائيلي وتحركاته ونشاطاته، وامتلك قاعدة بيانات حساسة عن المراكز السياسية والعسكرية والأمنية والمنشآت الحيوية داخل إسرائيل، وذلك بفعل متابعة حثيثة وجهد فائق عبر أشكال الرصد الميداني والاستخباري والمعلوماتي، وتجنيد متعاونين فلسطينيين من أبناء فلسطين المحتلة عام 1948، وهو ما كان له أثره الفاعل في فهم تضاريس الاحتلال عسكرياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً.
وفي مرحلة ما بعد حرب 2014 أطلقت حماس منطاداً ذا مهام استخبارية قرب حدود قطاع غزة مع إسرائيل، وهو ما يعدّ تطوراً لافتاً في إطار المعركة الاستخبارية بين حماس وإسرائيل.
ثانياً: اختراق أجهزة الاتصالات الإسرائيلية: بلغت القدرات الاستخبارية لحماس حد اختراق منظومة الاتصالات التابعة للجيش الإسرائيلي في المناطق الحدودية على تخوم قطاع غزة، وتجلى ذلك أوضح ما يكون إبان حرب 2014 التي استطاعت فيها حماس استهداف قوات النخبة والوحدات العسكرية الأكثر قوة وتأهيلاً في الجيش الإسرائيلي والإثخان فيها بشكل غير مسبوق.
فقد تمكنت حماس -عبر التنصت على الاتصالات الخاصة بالجيش الإسرائيلي ووحداته العسكرية العاملة في المناطق الحدودية وعلى تخوم القطاع- من معرفة آليات السلوك العسكري الإسرائيلي، وفهم طرق العمل والانتشار، وتحديد أماكن التجمع والانطلاق، مما منحها أفضلية في العمل والحركة لمواجهة القوات الإسرائيلية التي اقتحمت القطاع، ويسّر لها نصب الفِخاخ والكمائن التي أصابت الاحتلال في مقتل في كثير من الأحيان.
بل إن القدرات الاستخبارية لحماس بلغت حد رصد الزيارات والجولات السرية التي قام بها كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين لمناطق التماس مع قطاع غزة أثناء حرب عام 2014، وهو ما تجسد بوضوح في شريط الفيديو الذي وزعته حماس، ووثقت به زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك موشي يعلون للمنطقة الحدودية المتاخمة لغزة.    
ثالثاً: استخدام طائرات بدون طيار: في إطار تطور عملها الاستخباري؛ تمكنت حماس من تصنيع طائرات بدون طيار أسمتها «أبابيل» نسبة إلى الطيور الأبابيل التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، وهذه الطائرات تستطيع التحليق على ارتفاعات محدودة لكن يمكنها اختراق الحدود والطيران لمسافات طويلة.
وتمتلك حماس ثلاثة أنواع من طائرة «أبابيل»، الأولى ذات مهام استخبارية لجمع المعلومات، والثانية ذات مهام هجومية بحيث تحمل صواريخ وتلقي بها على أهداف محددة، والثالثة ذات مهام انتحارية بحيث تحمل كمية من المتفجرات وتهوي بها على الهدف المحدد.
ويُنسب الفضل في تصنيع وتطوير هذا النوع من الطائرات إلى المهندس التونسي محمد الزواري الذي اغتاله الموساد الصهيوني في محافظة صفاقس بتونس نهاية العام الماضي، بسبب دوره الهام في تصنيع هذه الطائرات، وعزمه على الشروع في تصنيع غواصات صغيرة قادرة على ضرب البوارج الحربية الإسرائيلية في عرض البحر.
ورغم أن الجيش الإسرائيلي أعلن مراراً إسقاط طائرات «أبابيل» لدى اقترابها من المناطق الحدودية مع إسرائيل، فإن عدداً منها تجاوز الحدود في مرات عديدة وتمكن من التقاط صور وجمع معلومات داخل إسرائيل.
وعلى أية حال، فإن الصراع الاستخباري بين حماس وإسرائيل لن يضع أوزاره ما دامت عقيدة حماس القتالية غالبة على خطاب الحركة وأدبياتها، ولو كان ذلك في الإطار الدفاعي المحض كما هو الحال اليوم، وستظهر تجلياته الميدانية -بشكل أو بآخر- خلال المرحلة المقبلة.}