العدد 1364 / 29-5-2019

كمال عبد اللطيف

يجري في المجتمعات العربية نقاش بشأن مآلات الفعل الثوري، بعد اقترابه من إكمال عقد من عمره. وقد بدأ الحديث عن مرحلة ما بعد الإسلام السياسي. ويمكن أن نلاحظ شبه إجماعٍ داخل النخب على أن التداعيات التي حصلت، بعد سقوط بعض الأنظمة السياسية العربية وصعود الحراك الاسلامي ، وكذا انتصار بعض الثورات المضادّة على الأفق الذي أعلنته الثورات، أدَّت إلى حصول ورطةٍ لم تستطع مجتمعاتنا تجاوزها، ولا مغالبة مختلف نتائجها في الحاضر العربي.

ينخرط العرب اليوم وسط تداعيات فعل الثورات في دوّامة مفزعة من ردود الفعل، الكاشفة لجوانب عديدة من صور تغلغل الاستبداد والفساد، في بنية النظام السياسي السائد، والكاشفة، في الآن نفسه، هشاشة الفعل الثوري العربي، وغياب حاضنته الثقافية التي يُفترض أن يساهم وجودها في عملية بناء نقط ارتكاز تاريخية ومؤسسية مناسبة لمقتضيات الثورة في التاريخ.

لا يمكن أن تُفهم الأوضاع العربية قبل احتجاجات 2011 وبعدها، إلا ضمن سياق تاريخي، يعكس أشكال تفاعل أنظمتنا ونخبنا السياسية مع التحولات الجارية في مجتمعنا، كما يعكس جوانب من أرصدة فكرنا السياسي وثقافتنا في الإصلاح، دون نسيان الإشارة إلى أن ما حصل يعد مرآةً لأحوال مؤسسات العمل السياسي والمدني داخل مجتمعنا، حيث عملت أنظمة الاستبداد على إنتاج معارضاتٍ شكلية تابعة، الأمر الذي يُظهر أن العطب السياسي الحاصل بعد انفجارات الربيع العربي يعكس عِلَل مشهدنا السياسي، المتمثلة في تراجع القوى السياسية الليبرالية واليسارية وتشرذمها في أغلب الأقطار العربية، إضافة إلى صور الخلط القائمة بين التيارات الموجودة في مشهدنا السياسي في أثناء الثورات وقبلها.

لا يكفي كل ما سبق، من العِلَلَ المتفشية في ثقافتنا وأنظمتنا السياسية، لتفسير المآلات التي آلت إليه الأوضاع الثقافية والسياسية في زمن الثورات. ومن هنا، بدا أن العمل من أجل تطوير جبهة الفكر الحداثي في الثقافة العربية، تمهد لثورة ثقافية، يمكن أن يساهم في محاصرة بعض أشكال تنامي الفكر النصّي المحافظ في ثقافتنا، لتتيح لنا الجبهة المذكورة بلورة ما نعتبره إسمنت التغيير في مجتمعاتنا، أي العمل على مزيد من بناء الجهود الكفيلة بتوطين قيم العقل والتنوير وإعادة توطينها في مجتمعنا.

تحققت الثورة السياسية في بعض البلدان العربية، بل شملت أصداؤها أيضاً الأقطار التي ما زال الطغاة على رأسها. ولا تراجع في الفعل الثوري، حتى عندما يتوقف أو يَظَلّ نزيفه متواصلاً. وقد قطعت الثورات، في بعض البلدان العربية، أشواطا مهمة، وهي تتجه إلى رفع مظاهر كثيرة للاستبداد والفساد، لِتُفَجِّرَ إمكانية حصول ما يماثلها عاجلاً أو آجلاً في مستوى الذهنيات والسلوكات، إلا أن التحقق الفعلي لثورة ثقافية تقطع مع أنظمةٍ في الثقافة والفكر، يقتضي، وعلى خلاف ما جرى ويجري في المستوى السياسي، زمناً أطول لتبرز ملامح المأمول، ويتخذ أشكالاً معينة. إن ثورةً ثقافيةً يمكن أن تظهر إرهاصاتها الأولى في قلب التغيير السياسي، ولكن استواءها يتطلب جيلاً أو جيلين، لكي نصبح أمام نمط في التفكير يتيح إمكانية القطع مع التقليد، ومع أنظمة الفكر المهيمنة.

يمكن التأكيد، إذاً، أن من الأمور المستعجلة اليوم في الثقافة العربية العمل على تأسيس جبهة للفكر الحداثي، تساعدنا على إيقاف مسلسلات التراجع والانكفاء الحاصليْن اليوم في مختلف تلافيف ثقافتنا ومجتمعنا، جبهة يمكن أن تشكل واجهةً أمامية، لمواجهة أشكال الانحدار الثقافي، الحاصل في بيئات الثقافة العربية، بفعل اتساع تيارات الفكر التقليدي المحافظ وتناميها، وانقطاع بل توقف وتيرة مغامرة الاجتهاد والإبداع في فكرنا.

لنتابع من أجل التأكد مما نحن بصدده بعض ما يدور في قنوات التواصل الاجتماعي، لنُعَايِن، بين حين وآخر، منتوج القنوات التلفزية الدينية، وقد تضاعف عددها، فقد امتلأت حياتنا بالشعوذة واللغو والبلاهة، وانتشر الفقهاء والمتكلمون في مختلف الزوايا... وأصبحت عقولنا تواجه يومياً عشرات المواقف الغريبة، وكثير منها لم يكن له وجود في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، فهل انتشر كل هذا الاعلام المرئي والمسموع، لأن تقنيات التواصل الجديدة فجَّرته؟ أم تَسَرَّب واستقر، لأن وصول الإسلام السياسي إلى السلطة سَهَّل شروط توطينه من أجل توظيفه عند الحاجة؟

وإذا كان الانفجار الثوري العربي المتواصل قد أفرز مشهدا جديدا في واقعنا، واكتشف الجميع، أن التغيير لا يكون فقط بإسقاط النظم الاستبدادية الفاسدة، بل يتطلب رؤيةً شاملة، لمختلف زوايا النهوض والتنمية. ذلك أن بناء مجتمعاتٍ عربيةٍ عصرية يحتاج اليوم إلى مؤسساتٍ مسلحةٍ بمبادئ الفكر المعاصر ومقدماته، قصد إعادة بناء المجتمع مجدّداً. ونحن نعتقد أنه لن تكون هناك مردودية لتحرّكات اليوم، إذا لم نبنِ الحدود التي تركب القطائع المطلوبة، وبلا تردد ولا مخاتلة، مع مختلف أوجه التقليد والاستبداد ومظاهرهما في وطننا الكبير.