العدد 1423 / 29-7-2020

وسط حضور جماهيري كبير غصت به الساحات والطرق القريبة، أقيمت أول صلاة جمعة منذ أكثر من ثمانية عقود في جامع آيا صوفيا، الذي ألغى القضاء التركي مؤخرا قرار تحويله إلى متحف الصادر عام 1934.

وتقدم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المصلين، بعد أن وصل إلى المسجد المكتظ رفقة رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية فخر الدين ألتن، في حين استقبله رئيس الشؤون الدينية التركية علي أرباش.

وتوافد المواطنون الأتراك منذ فجر الجمعة بأعداد كبيرة نحو ساحة مسجد آيا صوفيا، للمشاركة في أول صلاة جمعة فيه.

وقبيل الصلاة، بدأت رئاسة الشؤون الدينية برنامجا لتلاوة القرآن الكريم والأدعية في المسجد، حيث يقرأ أشهر القراء الأتراك سورا من الذكر الحكيم، بدؤوها بسورة الكهف، وشارك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتلاوة آيات من القرآن الكريم قبيل بدء صلاة الجمعة.

خطبة الجمعة الأولى

وألقى رئيس الشؤون الدينية في تركيا، علي أرباش، أول خطبة جمعة من مسجد "آيا صوفيا"، وصعد المنبر وهو يحمل سيفا بإحدى يديه، إحياء لعادة عثمانية قديمة. وقال إن هذا اليوم هو اليوم الذي تهتز فيه قباب "آيا صوفيا" بالتكبير والتهليل والصلوات، وترتفع من مآذنه أصوات الآذان والذكر، مضيفا "ها هي لهفة أحفاد الفاتح واشتياقهم، قد انتهت، كما أن صمت دار العبادة الجليل قد انتهى، فمسجد آيا صوفيا الشريف يلتقي اليوم من جديد بجموع المؤمنين والموحدين".

ونوه إلى أن هذا اليوم "يذكرنا بما حدث في يوم مشابه قبل 70 عاما حيث ارتعدت السماء والأرض بتكبيرات رددها 16 مؤذنا في 16 شرفة من شرفات مآذن جامع السلطان أحمد، فصدحت المآذن بالآذان بعد انقطاع 18 عاما".

وقال إنه من تحت قبة آيا صوفيا يدعو البشرية جمعاء إلى العدالة والسلام والرحمة، ويحث على الحفاظ على القيم العالمية والمبادئ الأخلاقية التي تحمي كبرياء الإنسان.

وأكد أن أبواب مسجد آيا صوفيا ستكون مفتوحة لجميع عباد الله دون تمييز، وستستمر "رحلة الإيمان والعبادة والتاريخ والتأمل دون انقطاع في الجو الروحي لمسجد آيا صوفيا".

قرار قضائي

وفي 10 تموز الجاري، ألغت المحكمة الإدارية العليا التركية قرار مجلس الوزراء الصادر في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 1934، بتحويل آيا صوفيا من جامع إلى متحف.

وبعد ذلك بيومين، أعلن رئيس الشؤون الدينية التركي علي أرباش -أثناء زيارته آيا صوفيا- أن الصلوات الخمس ستقام يوميا في الجامع بانتظام، اعتبارا من 24 تموز.

وآيا صوفيا صرح فني ومعماري فريد، يقع في منطقة السلطان أحمد بمدينة إسطنبول، واستُخدم مسجدا لمدة 481 سنة، ثم تحول إلى متحف عام 1934، وهو من أهم المعالم المعمارية في تاريخ منطقة الشرق الأوسط، وقد أدرج على لائحة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو)، وهو من أهم الوجهات السياحية في إسطنبول.

إقبال كبير على مسجد آيا صوفيا

يشهد مسجد آيا صوفيا الكبير، إقبالا كبيرًا من السياح المحليين والأجانب، في اليوم الثالث من افتتاحه أمام المصلين. ويواصل المواطنون الأتراك والمسلمون الذين يعيشون في الخارج، القدوم إلى مسجد آيا صوفيا الكبير بغرض الصلاة والزيارة.

واستقبل مسجد آيا صوفيا وباحته آلاف المواطنين الأتراك، الذين تدفقوا إلى المسجد للصلاة والتجول في باحته والتقاط الصور. واستقبل المسجد كذلك مجموعات من السياح الأجانب، إضافة إلى زوار من مختلف المدن التركية.

وتقوم فرق التعقيم بتطهير المسجد قبل صلاة الظهر، فيما تواصل الفرق الأمنية متابعة التزام الزوار بقواعد التباعد الاجتماعي.

وأعرب عبد الرحمن دوغدو، أحد زوار مسجد أيا صوفيا الكبير، عن سعادته بافتتاح المسجد أمام المصلين.

وتابع قائلًا: "الحمد لله الذي أحياني حتى أرى هذه اللحظة. الشكر لكل من ساهم في هذه الخطوة وخاصة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان".

كما قال محمود جيفتجي، أحد الزوار، إنه يزور آيا صوفيا للمرة الأولى، وهو يشعر بالسعادة لأداء الصلاة في هذا المسجد بعد 86 سنة من تحويله إلى متحف.

أما علي عثمان بنر، فقال إنه يقيم في فرنسا وجاء إلى إسطنبول لزيارة آيا صوفيا والمشاركة في افتتاح المسجد.

و"آيا صوفيا"، صرح فني ومعماري فريد، يقع في منطقة "السلطان أحمد" بمدينة إسطنبول، واستُخدم لمدة 481 سنة جامعا، ثم تحول إلى متحف في 1934، وهو من أهم المعالم المعمارية في تاريخ منطقة الشرق الأوسط.

آيات "آيا صوفيا"

هناك من يظن أن قرارات الزور والجبروت، أشبه بالقدر المحتوم، لا يجوز الثورة عليها ولا حتى مناقشتها، فلا يكاد ينوي مقاومتَها، فما بالك أن يجرؤ على إلغائها، وما حدث في تركيا من زمن العلمانية الأتاتوركية وفي غيرها من بلاد العالمين العربي والإسلامي، يؤكد أن الأنظمة وأحيانا الشعوب هي من تقبل الاستعباد، وكل الإمكانات والمقوِّمات بيدها لتقول ما تريد وتفعل أيضا ما تريد، خاصة على أرضها.

لم تكن عودة الأتراك إلى أداء صلاة الجمعة في مسجد آيا صوفيا مجرَّد انتصار مكاني وزماني عابر، سينساه الناس مع مرور الأيام وتوالي الأحداث، بل إنه انتصارٌ كبير على النفس الخانعة التي عجزت عن مقاومة التعنُّت الذي تتميز به قوى الشر في العالم وتفتخر.

منذ أن سقطت القدس في أيدي الصهاينة بعد النكبة الكبرى وحربي 1948 و1967، وهي تتعرّض للتهويد من دون تردد ولا حياء من الإسرائيليين الذين لم يغيّروا من جغرافية وتاريخ بيت المقدس فقط، بل حوّلوا هويته من أولى القبلتين إلى عاصمة للدولة العبرية، التي لاقت المباركة من الكثير من الأنظمة التي ثارت الآن بعد استرجاع مسجد آيا صوفيا لنداء الصلاة والفلاح، وقد تكون "ضربة معلم” التي قامت بها تركيا، هي بداية لأجل أن ترفع الكثير من الدول الجور المسلط عليها، تحت طائلة الاتفاقات الدولية التي هي في الأصل جائرة، مثل العلاقات الديبلوماسية المبرمة مع إسرائيل التي تجمع الكيان بالكثير من الدول، وتجعلها تقع في حرج تاريخي كبير، عندما تقوم الدولة الصهيونية بالمجازر، وعلمها السداسي، يرفرف في القاهرة وإسطنبول وفي غيرهما من العواصم .وفي تركيا، أكثر من ثمانين ألف مسجد، وأكيد أن تحويل آيا صوفيا من متحف إلى مسجد لن يهزّ الثروة المتحفية في إسطنبول ولن ينعش الثروة المسجدية في تركيا، ولكن ما يسجِّله في الذاكرة وفي التاريخ من تحدّ لن يقلَّ أثرُه عن قرابة قرن من زور عاشته البلاد التي مازالت الفتاة المتحجِّبة فيها غير قادرة على دخول الجامعة للدراسة، من دون أن تكشف عن شعرها. قد لا يكون مُهمًّا أن تسترجع الحجارة قيمتها، وقد يكون الأجدر إعادة الهيبة للإنسان أوَّلا وأخيرا، ولكن علاقة الإنسان بالحجر قديمة وعميقة، وقد يتولى الحجرُ أحيانا ما عجز عنه الناس: "ثم قست قلوبُكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة، وإن من الحجارة لمَا يتفجَّر منه الأنهار، وإن منها لما يشقَّق فيخرج منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله، وما الله بغافل عما تعملون”.