العدد 1344 / 9-1-2019

بقلم : نواف التميمي

هل تُدهش، أو تُصدَم، أو تُحبط، أو لا شيء مما ذُكر سابقًا، وأنت تسمع الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، يخطب في أبناء حركة فتح واصفاً الآلاف من جماهير شعبه بالجواسيس. ربما دُهش بعض الفلسطينيين مما سمع من الرئيس المُنتهية ولايته، وربما غضب بعضٌ آخر، والأرجح أن السواد الأعظم منهم ازدادوا إحباطاً على إحباط، وهم يشهدون هذا الانهيار الفلسطيني نحو درك أسفل لا قاع له. المذهل أن يصفق جمهور الحاضرين من بطانة الرئيس وزبانيته لما قاله. ما قاله أبو مازن تالياً لقراره بحل المجلس التشريعي لا يجب أن يفاجئ أحدا، ولا ينبغي أن يُدهش أحدا، فكما يقول المعجبون بالرئيس "أبو مازن منسجم مع نفسه" منذ التحق بحركة فتح، ثم أَلحق حركة فتح به. والرجل مُنسجمٌ في قناعاته وممارساته، حتى وإن بدت لبعضهم مشبوهة، أو غير مفهومة بالحد الألطف.

بالنظر إلى سنوات حكمه منذ كانون الثاني 2005، يمكن القبض على انسجام الرجل مع ذاته بالأفعال لا بالأقوال وحسب، بدءًا من إنهاء حالة المقاومة، أو ما يحب أن يسميها "مظاهر فوضى السلاح" و"المقاومة العبثية"، وصولاً إلى تشظية جسم المجتمع الفلسطيني على كل المستويات السياسية، وحتى الجغرافية، مروراً بتمزيق الجسد الفتحاوي. أما إنهاء المقاومة فقد شرع به الرئيس بالقطع بين مرحلة "الثورة والفدائية" ومرحلة "الدولة والياقات البيضاء" بإحالة الفئة الأولى إلى التقاعد أو الإقامة الجبرية، مع مكافأة "الثوار" المخلصين بمناصب دبلوماسية في سفارات فلسطين النائية. وبالتوازي مع ذلك، عمد الرئيس وطاقمه الجديد من التكنوقراط ورجال الدولة إلى إغراق أبناء الطبقة الوسطى من المجتمع الفلسطيني في مستنقعات الراتب الشهري، وسعر صرف الشيكل، وأسعار الفائدة، وقوانين الجرائم الإلكترونية، وأخيراً قانون الضمان الاجتماعي، بدلاً من إضاعة الوقت والمُقدّرات في "عبثية" المقاومة. وبموازاة ذلك، أخذ الرئيس وماكنته الدعائية لإقناع الشعب بمساوئ "العنف" الذي لم يجنِ الناس منه إلا تدمير البنيات التحتية، والإجهاز على مقدرات البنية الفوقية. وترافق مع عزف سمفونيات مشروخة، من قبيل "لا بديل من المفاوضات"، و"الكفاح السلمي"، و"نحب الحياة إن استطعنا لها سبيلا".

وعلى صعيد تشظية المجتمع الفلسطيني، من الإنصاف القول إن عوامل موضوعية ساهمت في تسهيل مهمة الرئيس لإنجاز ذلك، من قبيل الانفصال الجغرافي بين شطري الوطن – الضفة الغربية وقطاع غزة؛ حالة الترهل والشيخوخة التي أصابت الفصائل الفلسطينية العتيدة؛ حالة الهستيريا الدموية بالسلطة التي عبرت عنها حركة حماس في أكثر من مناسبة؛ غياب الشخصيات الفلسطينية المُؤثرة؛ وملء الفراغ بقياداتٍ انتهازية، لا تتمتع بأي رصيدٍ شعبي. وهكذا تعاضدت هذه العوامل جميعها، ووفرت مناخاً ساعد على توسع شقة الخلاف مع الفصائل الفلسطينية، وتهميشها في غالب الأحيان. وترافق ذلك مع محاصرة النقابات المهنية، والاتحادات الشعبية، وتجفيف منابع تمويلها ومصادر صمودها، وتهميش مكونات المجتمع المدني. وهكذا أصبح المجتمع الفلسطيني منقسماً إلى كانتوناتٍ: غزة وضفة، مخيمات وقرى ومدن، مواطنون وعائدون. مع انقسامٍ طبقيٍّ واضح. والأخطر هو التمييز بين الداخل والشتات، بعد أن بات الشتات على هامش أجندات السلطة.

وعلى مستوى حركة فتح، يتندر بعضهم بمدى كراهية الرئيس "الفتحاوي" للحركة. وربما كان الرئيس ولا يزال، يُصّرف هذه الكراهية بخلافاته التاريخية مع ياسر عرفات وآخرين من أعضاء اللجنة المركزية، وأعضاء المجلس المركزي. ولا يخفى أن أبو مازن أخذ، منذ العام 2005، بإعادة تفصيل الحركة على مقاسه، لا موقع فيها إلا لمن يهتف بحياة الرئيس وحنكته وحكمته.

وَصف الرئيس الفلسطيني شريحةً واسعةً من أبناء شعبه بالجواسيس، وقبل ذلك حل المجلس التشريعي المُمَثِل لمجموع الشعب، وما سبق ذلك، أو سيعقبه من إجراءات فردية، لا يجب أن يُفاجئ أحدا، فالرئيس منسجم مع نفسه، وما كان لكل المقدمات التي وقعت منذ 2005 إلا أن تؤدي إلى هذا الانهيار، والمُستغرب أن يَتوقع بعضُهم خلاف ذلك.