العدد 1451 /3-3-2021

ميشيل كيلو

من الأكاذيب الراسخة التي تبنتها النظم العربية، منذ استقلت بلداننا، أكذوبتان لم يحد عنها أي منها، في ما يتعلق بفلسطين.

تزعم الأولى أن فلسطين كانت دوما قضية العرب الأولى والمركزية. والحقيقة التي تؤكدها الوقائع أنها لم تكن كذلك يوما، بل كانت آخر قضاياهم، إن كانوا قد جعلوا منها أصلا قضية عربية. تؤكد وقائع قرن كامل أن فلسطين لم تكن إطلاقا قضيةً ينتجون مواقفهم ومصالحهم بدلالتها وانطلاقا منها، أو يمنحونها الأولوية على ما عداها من قضايا، أو يقيسون نجاحهم وفشلهم بما يقدمونه لها. لم تكن فلسطين قضية العرب المركزية، منذ غزت الصهيونية فلسطين بدعم بريطاني، ثم أميركي/ دولي، وأقيمت دولة أجنبية على نيّفٍ ونصف مساحتها، وطردت أغلبية شعبها التي رأت النظم العربية فيهم لاجئين لا قضية لهم، وخطرا على أمنها، ومنعتهم من تنظيم أنفسهم، ومواصلة صراعهم من أجل وطنهم، وأخضعتهم لرهاناتٍ كرّستها لتحاشي أي صراع مع الكيان الغاصب، على الرغم من أنه وضع سقوفا منخفضة لتطوّرها الداخلي ومحدّدات عدائية لعلاقاتها الخارجية، كما ظهر بجلاء بعد تدمير مفاعل العراق النووي.

لم يعتمد أي نظام عربي سياساتٍ تجعل فلسطين قضيته المركزية. ولم يكرّس موارده وقدراته لنصرة فلسطين ودعم شعبها، بل رأت النظم جميعها في نهائية وجود إسرائيل مسألة أمن قومي، تحميه بامتناعها عن بناء قدراتٍ رادعةٍ بما لديها من موارد هائلة، لا يقارن ما لدى الصهاينة بأي شكل من الأشكال بها. والحقيقة أن فلسطين لم تكن قضيةً لتكون مركزية، بل كان التنصّل منها هو القضية المركزية. والمؤسف أن هذا حدث بصورة خاصة عند نظمٍ زعمت أن القضية الفلسطينية قومية الطابع، وأن صفتها هذه تعطيها الحق في وضع يدها عليها، واستبعاد أبنائها عنها بحجّة قطريتهم التي تتعارض مع الإعداد القومي لحرب تحريرٍ فاصلة، يتوقف الانتصار فيها على رضوخ الفلسطينيين وتنظيماتهم لها، وتبنيهم مواقفها، وإن لم يكن لهم دور في بلورتها، ولم يستشاروا فيها، فهل نستغرب انقلاب هذا "الموقف القومي" من العداء لإسرائيل إلى عداء للفلسطينيين وتنظيماتهم، وقياس معركتهم "القومية" بإسهامهم في معاركها ضد خصومها الداخليين والعرب، بحجة أنهم عملاء للصهيونية.

زعمت الأكذوبة الثانية إن الصراع في المنطقة عربي إسرائيلي، بينما يقول التاريخ إنه لم يكن يوما صراعا عربيا ضد الكيان الغاصب، بل ظل صراعا إسرائيليا ضد العرب، وإن هؤلاء لم يفكروا بخوض صراع منظم دلالته الرئيسة مركزية القضية، لما لها من ارتدادات حاسمة على استقلالهم وحريتهم أمة ودولا. ولو فكّروا لما أمدّوا الصهاينة بمئات آلاف اليهود العرب، الذين مثلوا نيفا ونصف عدد الإسرائيليين حتى عام 1960؟. ولما عطّلوا فارق الموارد والقدرات بينهم وبين مهاجري المعزل اليهودي، أو قبلوا أن ينتزع قلب وطنهم الاستراتيجي والرمزي منهم، ولما سمحوا بانتزاع المبادرة منهم في جميع حروب إسرائيل ضدهم، وبامتلاك عدد من الجند فاق دوما ما عدد جندهم، علما بأن لدى مصر وحدها خمسة عشر ضعف عدد مستوطني فلسطين؟ لم يكن هناك أبدا صراع عربي ضد إسرائيل، بل كان هناك دوما صراع إسرائيلي ضد العرب. لذلك، باغت الصهاينة العرب وهم في غيبوبة تشبه الموت. لو كان هناك صراع عربي ضد إسرائيل، لما احتل جيشها عام 1967 ثلاثة أضعاف رقعتها الجغرافية، ولاحتل العرب تل أبيب في ساعات!

هاتان الأكذوبتان كانتا مكلفتين جدا بالنسبة لفلسطين وأمتها العربية التي ستجعل منها قضيتها المركزية، وستبادر في يوم آتٍ بلا ريب إلى تعريب صراعها ضد إسرائيل، بمجرّد أن تتحرّر من صهاينة الداخل، ومن وضعوا نظمهم وجيوشهم في خدمة صهاينة الخارج الذين لن تكتمل حرية العرب ما داموا في فلسطين.