ولاء سعيد السامرائي

كشفت «ويكيليكس» قبل الانتخابات الرئاسية الفرنسية، في أيار الماضي، وثائق تتعلق بصورة السياسة الخارجية الفرنسية في العالم، لعل من أهمها رسالة هوبير فيدرين، وزير الخارجية السابق في عهد الرئيس فرانسوا ميتران، إلى المرشح في حينه، إيمانويل ماكرون، يعرض فيها تدهور التأثير الفرنسي في العالم وانحساره، ويعزو ذلك إلى غزو «أيديولوجية المحافظين الجدد» بعد 2007 وزارة الخارجية الفرنسية، المتعارضة تماماً مع الخط الديغولي - الميتراني، الذي جعل من فرنسا دولةً ليست مثل كل الدول، صاحبة الثقل والمواقف المستقلة على الساحة الدولية، وفي الأمم المتحدة بمواجهة القوى العظمى. 
كتب فيدرين، في رسالته، أن الغربنة (من الغرب) التي خرجت من المحافظين الجدد، وأدخلت مفهوم صراع الحضارات الذي أثر على كل الدول الأوروبية، بغرض إقصاء فرنسا عن دورها الاستثنائي المزعج خصوصاً للولايات المتحدة. ويقول فيدرين إن هذا التأثير جرّ أوروبا، وخصوصاً فرنسا، إلى طريق مسدود، وإلى فشل ذريع، سواء في العلاقة مع الولايات المتحدة أو في الشرق الأوسط أو مع روسيا، كما ينصح بتقييم كل التدخلات الغربية منذ 25 عاماً، واستخلاص النتائج والدروس في ما يخص فرنسا ومصالحها الوطنية. 
وقد نجح الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في أسبوع قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)  والدول الصناعية السبع، ولقائه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في إرساء بداياتٍ إيجابيةٍ لما ستكون عليه السياسة الخارجية الفرنسية في عهده. فقد كرّر ماكرون في حملته الانتخابية، أن مرجعيته ستكون ديغولية – ميترانية، وهو ما لمسه الجميع في أول حضور دبلوماسي للرئيس على الساحة الدولية. فتوجهت أنظار العالم في قمة حلف الناتو إلى المصافحة القوية بين الرئيس الفرنسي الشاب ونظيره الأميركي دونالد ترامب. وعلى الرغم من أن هذه الحركة ليست ذات أهمية كبيرة، إلا أن لها دلالاتها الرمزية، ربما لموقف دبلوماسي جديد من الندّية والاستقلالية والحزم في بعض المواقف أمام القوة الأكبر في العالم، دون المساس بجوهر التحالف الاستراتيجي، كما المواجهة التي حصلت في ما يخص انسحاب ترامب من اتفاقية المناخ، فقد اعتبر الرئيس الفرنسي هذا الانسحاب خطأ تاريخياً، ودعا الشركات الأميركية التي تساند هذا الاتفاق إلى المجيء والاستثمار في فرنسا. وتعد هذه المواجهة موقفاً مهماً يسجل لصالح فرنسا دبلوماسياً، ولسياسة تعود إلى الخط الديغولي – الميتراني بامتياز. ليس ذلك فحسب، بل إن الفيديو الذي نشرته وزارة الخارجية الفرنسية لتفنيد الوقائع التي أوردها ترامب بشأن اتفاقية باريس، وقوله إنها اتفاقية تسيء للولايات المتحدة وتضرب التنافس والوظائف فيها، هو ردّ دبلوماسي مناسب جداً جاء في مكانه. 
وكان لقاء ماكرون مع الرئيس بوتين مناسبة أخرى لتأكيد رغبته في إعادة أهمية مسار الدبلوماسية الفرنسية المفقود، وأن ينعقد اللقاء في قصر فرساي، بمناسبة افتتاح معرض بيار الكبير الذي أسس قبل 300 عام أولى العلاقات الدبلوماسية مع فرنسا، كان مناسبةً للتذكير بالأهمية التي توليها باريس لعلاقاتها مع روسيا، بغض النظر عن علاقات الأخيرة مع الولايات المتحدة، وعن بعض النخب الفرنسية الإعلامية والصهيونية، من المحافظين الجدد، التي لها مهمة شيطنة روسيا ورئيسها بشكل كاريكاتوري. 
وهذا التذكير هو أيضاً عودة إلى مرجعية الجنرال ديغول الذي اعتبر أن لفرنسا علاقات  استراتيجية مهمة مع الاتحاد السوفياتي لا يمكن تجاهلها. كلف التنازل، منذ أكثر من عقد، عن النهج الديغولي - الميتراني فرنسا كثيراً على المستوى الدولي، وأثر على صورتها في العالم، خصوصاً عندما وقفت بصلابة أمام الولايات المتحدة، ورفض الرئيس جاك شيراك الحرب على العراق. لكن، ليس ذلك فقط، بل كان هذا التنازل سبباً قوياً لفشل نيكولا ساركوزي في الفوز بولاية ثانية عام 2012، على الرغم من الخطاب اليميني المشابه لأطروحات الجبهة الوطنية وتبني مطالب إسرائيل والولايات المتحدة في الحرب على العراق.
أما الرئيس فرانسوا هولاند، الذي أظهره فيديو يزور بيت نتن ياهو ويرفع نخباً للصداقة معه ومع إسرائيل، فلم يقرّر الترشح لولاية ثانية، لأن آخر الاستطلاعات أظهرت أن شعبيته متدنية جداً لدى الفرنسيين، وأنه الرئيس الوحيد في الجمهورية الخامسة الذي حاز نسبة 5% من القبول في الشارع الفرنسي. 
هذه الخطوات الإيجابية للرئيس ماكرون بداية ناجحة، ربما يأتي السير فيها بثمار مهمة لفرنسا وسياستها الخارجية في الداخل، كما في الخارج.}