بقلم: فهمي هويدي

 حين ينشر على الملأ أن التعاطف مع قطر بالقول أو الكتابة يعرّض صاحبه للسجن خمس سنوات في بلد «شقيق»، كما أن العقوبة تصل إلى ١٥ سنة في بلد «شقيق» آخر، ذلك غير غرامة تصل إلى نحو عشرة آلاف دولار، فمعنى ذلك أن المشاعر باتت تخضع للمحاكمة، وأن الكراهية وحدها صار مسموحاً بها ومطلوبة. هذا الكلام ليس افتراضاً من وحي الخيال، لأنه صار بمثابة أخبار جرى تعميمها عبر القنوات والمنابر الإعلامية الرسمية، ونسبت إلى مسؤولين يعبّرون عن وجهة نظر السلطة.
المناسبة معروفة. ذلك أن الصراع الحاصل بين بعض الدول الخليجية وقطر بلغ درجة غير مسبوقة من الحدة والشراسة، وصلت لحد حصار قطر من البر والبحر والجو، وإلى حظر التعامل الإنساني واعتبار التعاطف معها بأي شكل جريمة تعرِّض صاحبها للسجن مع الغرامة الباهظة.
لا أعرف صدى ذلك الإعلان في أوساط الناس العاديين، لكني قرأت أن مواطناً سعودياً آثر السلامة وسارع إلى تغيير اسم ابنه من تميم إلى سلمان (العاهل السعودي)، وهو معذور في ذلك لا ريب، لأن تسمية طفل على اسم أمير قطر دليل دامغ يدينه في ارتكاب جريمة التعاطف التي تضيع صاحبها وتخرب بيته. وكنت قد وقعت في أعقاب إعلان قرار قطع العلاقات على تعليق لأحد الظرفاء، تساءل فيه عن انعكاس الأزمة على أسرة المطربة الإماراتية أحلام المتزوجة من قطري، وكيف ستنفذ قرار المقاطعة. لكن ما بدا تندراً تبيّن أنه مشكلة حقيقية واجهت أسراً عديدة طلب من الزوجات أو الأزواج القطريين فيها مغادرة البلاد «الشقيقة» المنخرطة في المقاطعة على الفور. وهو ما سبق أن حدث في العراق الذي كان الزواج فيه بين السنّة والشيعة أمراً عادياً، إلى أن هبت رياح الكراهية على البلد، فقطعت الأواصر وعصفت المرارات بتلك العائلات المختلطة.
إلى عهد قريب كانت للمجتمعات الخليجية خصوصيتها، التي تمثلت في تداخل القبائل والعشائر واستمرار التجانس بين مكوناتها، واختفاء الصراعات والخصومات في محيطها. وهى عوامل ساعدت على احتواء وتسكين الخلافات بما حفظ للبيت الخليجي تسامحه وتماسكه، إلا أن عوامل عدة عصفت بكل ذلك في ما يبدو. وهو ما يحتاج إلى دراسة وتحليل يرصد تأثير العوامل الداخلية، ومنها الوفرة المالية التي عززت الشعور بالقوة وأيقظت طموحات التمدد وتطلعات الزعامة التي تجاوزت الحدود. ساعد على ذلك وشجعه الفراغ المخيم على الساحة العربية، جراء تدمير بعض دولها الكبرى أو الأزمات الاقتصادية التي عانت منها دول أخرى جار عليها الزمن، فتحولت من موقع المسؤول إلى موضع السائل.
إذا وسّعنا زاوية النظر فسنجد أن تدهور العلاقات البينية في الخليج بمثابة امتداد للحاصل في العالم العربي الذي ما عاد الخلاف يحتمل في أهم دوله، إذ نتيجة الغياب الطويل للممارسة الديمقراطية التي تترعرع في ظلها ثقافة التعايش، فإن الاختلاف لم يعد من علامات التنوع والثراء، لكنه صار مصدراً للشقاق والكراهية. إذ ضاقت الصدور بحيث أصبح الآخر مرفوضاً، وصار الشعار المرفوع هو «إما نحن أو هم»، الأمر الذي روّج لثقافة إبادة الآخر أو إخضاعه في أحسن الفروض. وغدا ذلك ميسوراً في الأجواء الراهنة التي تكفّل فيها مصطلح الإرهاب بحل المشكلة، إذ جرى التوسع التدريجي في تعريفه بحيث أصبح الإرهابي هو «كل من خالفنا»، الأمر الذي يفتح الطريق أمام تقدم كتائب الإبادة السياسية والثقافية، والتصفية الجسدية في حالات أخرى، وتلك مهمة تكفلت بها وسائل الإعلام التي لم تقصر في القيام باللازم من خلال الشيطنة التي تجيدها.
يحفظ تراثنا الأدبي لشاعر أندلسي قوله لمحبوبته: (إن قلت ما أذنبت قلت مجيبة - وجودك ذنب لا يقاس له ذنب)، إذ إنها تأبَّت عليه ونفرت منه، فلم ترد أن تناقشه فيما إذا كان قد أخطأ أو أصاب، لأنها اعتبرت أن المشكلة تكمن في وجوده على وجه الأرض.. هل أصبح الأمر كذلك بالنسبة إلى قطر التي صار وجودها بما تمثله في الخليج ذنباً غير مغفور؟}