محمد إبراهيم المدهون

وجاءت ترجمة «وثيقة كامبل» الميدانية في اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور، وما حمله ذلك من دلالات تتعلق بالرغبة في ديمومة السيطرة على المشرق، ومن ذلك جعْل فلسطين في الرؤية الغربية دولةً غربيةً هي «إسرائيل»، لتقطع طريق تواصل المشرق العربي مع مغربه، فضلاً عن تخلصهم من يهود أوروبا وما مثَّلوه من إزعاج لا ينكره التاريخ الأوروبي في التعامل مع اليهود.
ومن هنا يمكن القول إنَّ وجود «إسرائيل» مثَّل مصلحة للغرب وفق هذه الفلسفة الاستعمارية الظالمة. وحيث إنَّ المصالح ليست ثابتة وبعد قرن من وعد بلفور؛ فإنَّ مبررات وجود «إسرائيل» كمنطقة عازلة لم تعُد قائمةً في ظل تطور المواصلات والاتصالات الحديثة، فضلاً عن سيطرة اليمين الصهيوني ومعظمه من الشرقيين، ما يحمل بذور تحول في الرؤية الغربية لوجود «إسرائيل».
وفضلاً عن ذلك؛ تزايد عدد المسلمين والعرب في أوروبا والغرب، ما يحمل مؤشرات تغير الموقف الغربي تجاه وجود «إسرائيل»، إضافة إلى عدد الفلسطينيين من عرب 48 المتزايد في «إسرائيل»، وهو ما يؤثر في التركيبة الديمغرافية وما لها من انعكاس على قراءة مسألة ضرورة وجود «إسرائيل».
وقد يكون هذا هو الذي يدفع إلى مزيد من الضغط المتسارع لإنقاذ «إسرائيل» بإقرار ما يسمى «يهودية الدولة»، وما يعزز ذلك من احتدام للصراع في فلسطين، الذي لم تنجح الفكرة الغربية في تدجينه لصالح الغرب أسوةً بما حدث في نيوزلندا وأميركا اللاتينية وأميركا الشمالية.
كل ذلك جاء على حساب الشعب الفلسطيني الذي دفع فاتورة مشروع أساتذة الاستعمار بالتهجير القسري، وإلى الآن لم يستطع الغرب أنْ يعود إلى إنسانيته بإعادة الاعتبار لحقوق الشعب الفلسطيني، ولكنه غير قادر على إنكار واقع الحضور الفلسطيني، ما يدفعه للجوء إلى الحلول الترقيعية بمشروع «حل الدولتين»، دون أنْ يوفر الإرادة الكفيلة بإلزام «إسرائيل» بها.
والأدهى من ذلك ما جرى مؤخراً من تنكّر لها من رأس المشروع الغربي المعاصر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، باعتماد القدس عاصمة لـ«إسرائيل». وإنْ كان هذا لا يحظى باستحسان أصوات ضعيفة في الغرب فإنَّه نافذ بإرادة عراب صفقة القرن، ومن هنا كان التحول من الرغبة في الوصول للسلام بدولة فلسطينية إلى إدارة عملية سلام تقوم على أساس تسوية تُفرض على الشعب الفلسطيني.
وذلك رغم أنَّ لدى العالم الغربي فلسفة يؤكدها مراراً تقرّ بحق الشعوب في التحرر والمقاومة، وترى محاربيهم من أجل الحرية أبطالاً وليسوا إرهابيين، إلا أن ذلك لم ينطبق على الحالة الفلسطينية وفي القلب منها حركة حماس.
إنَّ منطلق النظرة  الغربي للفكر الإسلامي على أنَّه منافسٌ عدائيٌ حمل بذور علاقة الغرب بحماس، فضلاً عن الرعاية الغربية اللامحدودة لمشروع وجود «إسرائيل» في المنطقة؛ جعل من حماس كبش فداء، فلا هي مقبولة بمرجعيتها الإسلامية، ولا هي مقبولة بوصفها حركة تحرر وطني في ظل تناقضها المركزي مع وجود المشروع الغربي ممثلا في «إسرائيل».
ورغم توافر أجواء متكررة كانت تمنح فرصاً معقولة للغرب للاقتراب من حماس وخاصة في الانتخابات وبعد وفوزها بها؛ فإنَّ الموقف الغربي منها لم يتغير، رغم الإقرار أحياناً بمظلومية الشعب الفلسطيني عموماً وحماس خصوصاً، كحركة وطنية تساهم في مشروع الشعب الفلسطيني في التحرر وإقامة الدولة.
إلا أنَّ ترجمة ذلك إلى سلوك غربي جديد لم يتحقق، بل إنَّ الرؤية الغربية أحياناً أوغلت في العدائية لحماس. ولعلّ البيان الصادر مؤخراً عن البرلمان الأوروبي بحق حماس، والذي قال إنها تستخدم المدنيين دروعاً بشرية، وتستغل مُقَدَرات غزة المالية في صناعاتها العسكرية؛ كان يحمل المزيد من الظلم في ازدواجية المعايير، فضلاً عن تأكيد رعاية الغرب لوجود «إسرائيل» حتى ولو كان ذلك على حساب منظومة القيم الغربية.
حماس حركة تحرر وطني تقوم على أساس مقاومة الاحتلال، إلا أنَّها وفق الإدارة الأميركية منظمةٌ إرهابية، وتتناقض أميركا في ذلك مع باقي مكونات الرباعية الدولية؛ إذ تقيم روسيا علاقات مع حماس، في تناقض لا تُخطئه العين بين قيِّم الغرب المعلنة والسلوك العدائي تجاه حماس، بل إنَّ الغرب تناقض مع ذاته في العلاقة مع حماس حين تنكَّر لنتائج الديمقراطية الفلسطينية 2006.
وكان أكثر تناقضاً مع إنسانيته حين مارس الحصار الظالم على غزة باعتماده مساراً عدائياً ضد حماس ووجودها، وذهب أبعد من ذلك في تناقضه -وفق التقارير الدولية (تقرير غولدستون نموذجاً)- حين عاش تفاصيل المذابح ضد غزة، واستخدام الأسلحة الفتاكة والمحرمة دولياً ضد المدنيين في غزة.
وهو يتابع اليوم تفاصيل ما يجري على حدود قطاع غزة في مسيرات العودة الكبرى من قتل للأطفال والمدنيين، دون أنْ يعيد النظر في منهجيته الظالمة بأنْ ينتصر لقيَمه ومبادئه التي صُمَّ العالَمُ بالحديث عنها.
كان يفترض أن تُحدِث القراءة الموضوعية لأدبياتها -وخاصة الوثيقة السياسية التي أصدرتها قبل سنة- فارقاً في نظرة الغرب إلى حماس، وكذلك ممارستها في الحُكم؛ فقد أعطت الأقلياتِ -وفي القلب منهم النصارى- حقَّهم الكامل، وهي تعلن أنَّ عداءَها لليهود لا يقوم على أساس ديني بل إنها تحترم اليهودية كشريعة، وتناقضها هو مع الاحتلال باعتباره مغتصباً للأرض.
كما أن حماس لم تنقل الصراع خارج الأرض المحتلة رغم إيغال «إسرائيل» في دماء الفلسطينيين ومناصريهم حتى خارج حدود منطقة الصراع كجغرافيا، وكان آخر ذلك اغتيال الشهيد العالِم فادي البطش الذي تشير دلائل كثيرة إلى تورّط اليد الأمنية الإسرائيلية فيه، فضلاً عن قتل واستهداف العشرات خارج حدود فلسطين، وكثير منهم ثبت تلوّث اليد الصهيونية بدمائهم غدراً وغيلة.
حماس أيضاً قبلت التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة، وممارستها أكبر دليل على ذلك حتى في إطارها الداخلي، وهو ما يؤكد انسجام حماس مع الممارسة الديمقراطية التي يعتمدها الغرب فلسفةً سياسيةً وإدارية، كما انسجمت حماس مع الرؤية الغربية لحقوق المرأة ومشاركتها، ورأينا الدور النسوي المتزايد في عهد حماس.
وفي السلوك السياسي؛ احترمت حماس النظام الدولي ولم تصطدم معه، بل أقامت علاقات على أساس الاحترام المتبادل بسلوك حيادي أدى إلى كسب محاور متناقضة، وذلك على قاعدة مصلحة القضية والشعب الفلسطيني، ولم يثبت أنَّها تدخلت في شؤون أي من دول العالم.
وفي الشأن الفلسطيني الداخلي؛ مارست حماس تأكيد وحدة الشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافة، مع مرونة سياسية تجمع بين الثابت والمتغير، بل ذهبت سياسياً إلى أبعد من برنامجها بقبول دولة في حدود عام 1967 وفق القراءة الغربية لإقامة دولة عاصمتها القدس، ومنحت التفاوض فرصاً متعددة لتحقيق إنجاز في ذلك.
ولكن في ظل التفاوض تكرّس الاستيطان، وابتُلعت الضفة الغربية، وحُوصرت غزة، وشُطبت القدس، وجارٍ العمل على إلغاء حق العودة.
إنَّ مبدأ الحراك الغربي لإعادة تصويب العلاقة مع الشعب الفلسطيني -ومنه حماس كحركة تحرر وطني- يكمن في الاعتراف بالجريمة التي وقعت بحق الشعب الفلسطيني باغتصاب أرضه وتهجير شعبه، وحقه (بعد مرور مئة سنة على وعد بلفور) في تقرير مصيره، وهو الشعب الوحيد الباقي تحت الاحتلال في القرن الواحد والعشرين.
التفاؤل ليس كبيراً في إحداث تحول في الموقف الغربي في ظل سياسة ترامب، ومواقف متطرفة متزايدة في المنظومة الغربية تتم ترجمتها تباعاً بالاعتراف بالقدس عاصمة لــ«إسرائيل» وبيهودية دولة الاحتلال، وكذلك التنكَّر لحالة المظلومية الفلسطينية، وأطفال غزة يقتلون على حدودها دون أنْ يُسمع صوت قيم العالَم الغربي؛ ولكن كل ذلك سيُبقىِ الغرب في قفص الاتهام في علاقته بفلسطين، وحق شعبها في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.}