العدد 1566 /7-6-2023

بحري العرفاوي

قبل اعتقاله، كان الأستاذ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة أوصى بأن يتولى الدكتور منذر الونيسي نيابته في رئاسة الحركة إذا ما تم سجنه، ولم يعترض أي عنصر من أعضاء المكتب التنفيذي، ولا حتى رئيس مجلس الشورى الذي كان حاضرا.

بعد أن تمت مداهمة منزل الغنوشي يوم 17 نيسان/ أبريل 2023، عند أذان المغرب في السادس والعشرين من شهر رمضان 1444، كتب منذر الونيسي على حسابه الخاص فيسبوك: "الأستاذ راشد الغنوشي هو رئيس حركة النهضة اليوم وغدا". ولعله بذلك يخاطب خصوم الغنوشي ويؤكد لهم أن الغنوشي لن تنهيه المحاكمات، ولن يسلبه السجن صفته القيادية وزعامته لأكبر حزب سياسي في البلاد، وهذا ما يعيد صياغته في تدوينة ثانية بقوله: "العالم كله يسأل عن الغنوشي، هذا كنز تونسي يتم إهماله". وفي تأكيده رئاسة الغنوشي للحركة رغم سجنه، يرسل منذر الونيسي رسالة طمأنة لمناضلي الحركة، بكونه لا ينوي الاستحواذ على موقع خارج القانون الداخلي للحركة، فالعملية مؤقتة إلى حين زوال المانع قريبا بحول الله.

وقد أصدر المكتب التنفيذي بتاريخ 26 نيسان/ أبريل 2023 بيانا جاء في النقطة الرابعة منه: "تُعلم الرأي العام، أنه في غياب رئيس الحركة الأستاذ راشد الغنوشي، يتولّى نائبه الدكتور منذر الونيسي تسيير شؤون الحركة، إلى حين زوال مسببات هذا الغياب الطارئ".

حاول منذر الونيسي، رئيس حركة النهضة بالنيابة، إرسال إشارات تهدئة لمنع أي سلوك قد تأتيه السلطة تجاه مناضلي الحركة، أيضا لتلطيف مزاج قواعد النهضة وهم يشعرون بالظلم، ويتوجسون من مشروع استئصالي ترتب خطواته أطراف يسارية؛ تتوغل في مفاصل الدولة وتنفخ في نار الفتنة للإيقاع بين الرئيس قيس سعيد ومعارضيه من الإسلاميين تحديدا.

حاول منذر الونيسي، رئيس حركة النهضة بالنيابة، إرسال إشارات تهدئة لمنع أي سلوك قد تأتيه السلطة تجاه مناضلي الحركة، أيضا لتلطيف مزاج قواعد النهضة وهم يشعرون بالظلم، ويتوجسون من مشروع استئصالي ترتب خطواته أطراف يسارية؛ تتوغل في مفاصل الدولة وتنفخ في نار الفتنة للإيقاع بين الرئيس قيس سعيد ومعارضيه من الإسلاميين تحديدا.

يتذكر الإسلاميون أن معركتهم مع بن علي كان يغذيها اليسار الاستئصالي المتسلل في مفاصل الدولة، ويتذكرون ما تعرضوا له هم وعائلاتهم من عنف وتنكيل. ويمكن الاطلاع على روايات أدب السجون التي نشرها عشرات الضحايا بعد سقوط نظام بن علي، لمعرفة حجم المأساة التي تعرض له مناضلو الحركة الإسلامية طيلة حكم بن علي، لقد كان اليسار العقائدي هو نار الحطب في محنة الإسلاميين.

إيقاف الأستاذ راشد الغنوشي كان فرصة جيدة ليعرف عموم الناس أن كل التهم السابقة بالإرهاب وبتبييض الأموال لم تكن حقيقية، وها هو يُسجن بسبب تصريح في مسامرة رمضانية، إنه سجين رأي وليس متهما لا بفساد ولا بإرهاب، كما كان سجنه حُجة على قيس سعيد أمام الرأي العام الذي قيل له؛ إن الغنوشي وبقية المعارضين يعطلون عمل الرئيس وحكومته، فها هم في السجن وها هو الرئيس لم يقدم للتونسيين شيئا، بل إن ظروفهم تزداد سوءا.

ربما يُقدّر منذر الونيسي أن اللحظة الاجتماعية مناسبة لإطلاق خطاب هادئ يسمعه عموم الناس، علّهم يتخففون من غريزة الحقد والانتقام ليفكروا في كيف نخرج البلاد من أزمتها، وفي هذا المعنى، كتب يوم 28 نيسان/ أيريل تدوينة جاء فيها: "تونس تحتاج إلى الحكمة والتبصر ووحدة وطنية صماء، تحتاج إلى تهدئة وتجاوز الخلافات وتغليب مصلحة الوطن والمواطنين، السياسة ليست رديف السجون ولا رديف الكره والفرقة، السياسة وسيلة لخدمة الوطن والمواطنين والحفاظ على مكاسب الشعب والدولة، تونس وطن الجميع، نرجو أن يغلب العقل والوفاق ويساهم كل التونسيين بمختلف مشاربهم وأحزابهم في بناء وطنهم وعزته. بلادنا أمانة، أولادنا وأولاد أولادنا في أعناقنا".

المنذر الونيسي أستاذ بكلية الطب، وهو طبيب جراح اختصاص أمراض الكلى، ولذلك نجد خطابه تشخيصيا ومباشرا وتلقائيا، بعيدا عن الإنشائية وعن الإيحاء والترميز، وخطابه ليس جافا كما خطاب السياسيين التقليديين، إنما يتوفر على قدر من العاطفة الإنسانية، لذلك نجده كثيرا ما يدعو إلى قيم العدل والرحمة وإلى المحبة والتضامن، وكثيرا ما يحاول شحن السياسة بالأخلاق.

يحاول الدكتور الونيسي دعوة الجميع إلى "كلمة سواء"من أجل تونس والتونسيين، كتب يوم 3 أيار/ مايو: "النهضة ستعمل دائما لمصلحة تونس ولن تدخر جهدا لخدمتها والتضحية في سبيلها، النهضة تحتاج إلى تقييم ومراجعات للمساهمة في إنقاذ البلاد، ليست للنهضة عداوة مع كائن من كان؛ لأنها تؤمن بالمواطنة والعيش المشترك، ليس للنهضة مشكلة حتى مع من يريد استئصالها اليوم، وإعادة مأساة وجرائم نظام بن علي، النهضة تعمل وفق القانون ومصلحة البلاد العليا، وتمد يدها إلى الجميع من أجل حوار هادئ بعيدا عن التخوين والتفرقة، النهضة حزب مدني حكم وأخطأ وأصاب، لكنه حافظ على الديمقراطية وحرية التعبير ولو على حساب سمعة وكرامة قياداته وقواعده. النهضاويون مسالمون وديمقراطيون يتبعون بوصلة الوطن أينما تدور يدورون، النهضة ستتجه حتما نحو اليسار لتكون حاملا لهموم التونسيين الاجتماعية ومشاغلهم الحياتية، ستكون مهمومة بالمقدرة الشرائية للناس وتحسين ظروف عيشهم وبث الأمل بين عمومهم. النهضة ليست طالبة حكم وتنتصر لصناديق الاقتراع وسيادة الشعب".

هذا الخطاب يغضب عددا من مناضلي الحركة، إذ يعتبرون أنفسهم في وضعية مقاومة للانقلاب، ولا يحسن أن يصدر عنهم خطابٌ مهادن؛ كما لو أنهم يرجون المنقلب أن يخفف عنهم الضغط والملاحقة. ولكننا حين نكتشف أن الرجل يرى الخطر على الحركة قادما من طرف أيديولوجي بعينه؛ يحرض عليها الرئيس، نفهم لماذا يُبدي مرونة عالية تجاه قيس سعيد، حتى إنه في ظهوره الأول مع الإعلامي برهان بسيس قال؛ إن قيس سعيد ليس استئصاليا، وقال؛ إن الحركة تمد يدها للجميع بمن فيهم قيس سعيد ودون شروط من أجل إخراج البلاد من أزمتها. إنه متيقن من كون طرف يساري عقائدي هو من يدفع نحو فتنة بين الحركة ومؤسسة الرئاسة.

هذا الخطاب يغضب عددا من مناضلي الحركة، إذ يعتبرون أنفسهم في وضعية مقاومة للانقلاب، ولا يحسن أن يصدر عنهم خطابٌ مهادن؛ كما لو أنهم يرجون المنقلب أن يخفف عنهم الضغط والملاحقة. ولكننا حين نكتشف أن الرجل يرى الخطر على الحركة قادما من طرف أيديولوجي بعينه؛ يحرض عليها الرئيس، نفهم لماذا يُبدي مرونة عالية تجاه قيس سعيد.

وقد كتب يوم 13 أيار/ مايو نصا واضحا جاء فيه: "هناك طرف سياسي أيديولوجي معين يشن حملة كبيرة وظالمة ضد حركة النهضة ويحاول إلصاق تهم كيدية بها، ويستعمل أذرعه السياسية والإعلامية المفضوحة لنشر الكذب والتلفيق، ووصل بهم الأمر إلى حد الدعوة لسجن أنصارها واستئصالهم وقتلهم، وإخراجهم من مؤسسات الدولة. ورغم تأكيد رئيس الجمهورية ووزارة الداخلية أن عملية جربة إجرامية، فهم يحاولون إلصاقها بالحركة، بل وصل الأمر بأحدهم أنه ادعى أن الغنوشي أمر بها من سجنه. هم يعتبرون أن الفرصة مواتية لتنفيذ حلمهم الذي عجزوا عن تحقيقه طيلة عشريات طويلة، واستغلال الواقع السياسي الحالي لتصفية خصم طالما هزمهم ديمقراطيا. هؤلاء يريدون الوقيعة والفتنة بين رئيس الجمهورية ومؤسسات الدولة وحركة النهضة، وكلما فشلوا عاودوا الكرة بأكثر شراسة ولا إنسانية. هم يخوضون الآن حملتهم الأخيرة ضد النهضة بكل ما أوتوا من قوة وخبث".

سيجد منذر الونيسي من يشاركه هذه الرؤية وهذا التمشي، وسيجد أيضا من يختلف معه ويعارضه، وهو لا يمتلك صلاحية كاملة ولا يمكن أن يكون صانع سياسة الحزب؛ لكونه ليس منتخبا من خلال مؤتمر عادي، ثم لكون سياسات الحزب تناقش في المكتب التنفيذي وفي مجلس الشورى.

وفي كل الحالات، سيكون خطاب الدكتور منذر الونيسي خطّا فكريا ومنهجا في معالجة الأزمة، قبل أن يكون خطّا سياسيا لا أراه يطمح إليه، فكل حُلم هذا "الطبيب" هو إنقاذ "الجسم" من أن تشله حمى أحقاد الخصوم من الاستئصاليين.