ماجد كيالي

مع مجيء رئيس أميركي جديد إلى البيت الأبيض مطلع هذا العام؛ تزايدت الأطروحات المتعلقة بالتخلص من التسوية الفلسطينية ومن استحقاقاتها، للتحول نحو إقامة نوع من السلام الإقليمي بين إسرائيل وبعض الدول العربية يستوعب الحل الفلسطيني أو يدعمه، وفي نفس الوقت يشتمل على ايجاد مناخ سياسي إقليمي مُواتٍ لعلاقات عربية/إسرائيلية، مع إيجاد مؤسسات إقليمية وعلاقات تعاون اقتصادي.
مع ذلك يجدر التنويه هنا إلى أن هذا الطرح تم البحث فيه من قبل، خاصة في القمة التي عقدت بين رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتن ياهو وكل من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والملك الأردني عبد الله الثاني في العقبة (شباط 2016)، بحسب تسريبات لصحيفة «هآرتس».
ثم إن الرئيس السيسي تحدث -في خطاب له خلال أيار 2016- عن إقامة سلام يمنح الأمل للفلسطينيين والأمان للإسرائيليين، مع تأكيده «المبادرة العربية للسلام».
محركات الفكرة
بيد أن هذه الأطروحة أضحت اليوم تستمد زخمها من المحركات الآتية: أولاً، وجود رئيس للولايات المتحدة لا يحمل أجندات واضحة أو مسبقة، وقد صرح مراراً وتكراراً بأن المهم هو إيجاد تسوية بين إسرائيل والبلدان العربية، وأن الدولة الفلسطينية ليست شرطاً لذلك. 
فضلاً عن أنه لوّح بإمكان الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، وأبدى لامبالاة بشأن الأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية، وقال إن على الطرفين المعنيين أن يتفقا على ما يريدانه، سواء كان دولة فلسطينية أو دولة واحدة أو أي شيء آخر.
ثانياً، تأتي هذه الأطروحة في وضع يشهد فيه العالم العربي استقطابات من نوع جديد، لا سيما على خلفية التمزق أو الانهيار على مستوى الدولة والمجتمع في المشرق العربي من العراق إلى سوريا، مع تزايد المخاطر الناجمة عن صعود نفوذ إيران وتمددها من طهران إلى لبنان، مروراً بسوريا والعراق واليمن.
ثالثاً، لم تعد إسرائيل -في ظل الظروف والمعطيات الراهنة- مبالية بعملية السلام، التي تجعلها تدفع -بحسب رأيها- أثماناً كبيرة، لا سيما مع الفلسطينيين، خصوصاً بعد انحسار المقاومة بكل أشكالها، ومع غياب التهديدات من كل الجبهات بعد التحولات في مصر، وتصدع الجبهة الشرقية بتفكّك الجيشين السوري والعراقي.
رابعاً، تلاحظ مشاريع التسوية الإقليمية -بحسب صحيفة «جيروزاليم بوست» (وكالة «سما»، 27 حزيران 2017)- أن الأمر يتطلب أيضاً إقامة كيان فلسطيني مستقر ومزدهر، «يتم تأمينه» عبر «التزامات دولية» وعن طريق تشكيل «اتحاد كونفدرالي مع مصر والأردن»، واعتراف العرب بدولة إسرائيل وأنها «دولة الشعب الإسرائيلي التي ستكون القدس عاصمتها».
الخلفية التاريخية
تتأسس أطروحات التسوية الإقليمية على ركيزتين أساسيتين: أولاهما، التحول من التسوية مع الفلسطينيين إلى التسوية مع بعض الدول العربية، وإقامة علاقات طبيعية بينها وبين إسرائيل، بل وحل المسألة الفلسطينية في الإطار العربي -لا سيما غزة مع مصر، والضفة مع الأًردن- في إطار كونفدرالي مثلاً، أو بإقامة دولة في غزة، وترك الضفة مع الأردن و/أو إسرائيل في إطار كونفدرالي.
والمهم هنا أنه بدلاً من البدء في التسوية الفلسطينية؛ تجري التسوية بداية مع الإطار العربي، وهو ما يعني تهميش البعد الفلسطيني، وأن الفلسطينيين لم يعودوا مقررين في شأن التسوية أو الصراع مع إسرائيل.
ثانياً، فكرة التسوية تقوم على المصالح الأمنية والاقتصادية التي يفترض أنها باتت تجمع إسرائيل بالدول العربية، وطبعاً تطمح إسرائيل إلى أن تشمل هذه التسوية -إضافة إلى مصر والأردن- بعض دول الخليج وشمال أفريقيا.
هذه الدعوات تستند إلى «المبادرة العربية للسلام» التي أطلقتها القمة العربية (بيروت 2002)، التي نصت على مبادلة انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة (1967) مقابل السلام والتطبيع.
سؤال الجدوى
معلوم أن إسرائيل ضربت عرض الحائط بكل هذه المساعي والأطروحات، بسبب إصرارها على تكريس واقع الاحتلال ورفض أي انسحاب من الضفة الغربية، والتمسك بالقدس عاصمة موحدة، وبتعزيز الأنشطة الاستيطانية، خاصة أنها لم تجد في الوضع الفلسطيني أو العربي أو الدولي ما يضغط عليها لإجبارها على الانسحاب.
وعلى ذلك؛ ثمة أسئلة تطرح نفسها بخصوص الجدوى: فأولاً ومن الناحية الفلسطينية، ما الحاجة إلى مبادرات كهذه في حين أن مسار العملية الجارية بين الإسرائيليين والفلسطينيين -والتي أثمرت اتفاق أوسلو 1993- عمره قرابة ربع قرن، طرح في غضونها العديد من الخطط.
والحاصل أن ما يجري يستهدف الالتفاف على القضية الفلسطينية ووأد حقوق الفلسطينيين، مع التأكيد أن أي شيء يحصل على صعيد العلاقة بين إسرائيل وبعض البلدان العربية لا يمكن التعاطي معه بوصفه جزءاً من عملية تسوية حقيقية ولو نسبياً، إذ إن ذلك سيكون في إطار إعادة تشكيل المنطقة، أي كجزء من التسويات التي يمكن أن تحصل لتحقيق نوع من الاستقرار، لا أكثر ولا أقل.
رؤية إسرائيلية
على الصعيد الإسرائيلي كشفت صحيفة «جيروزاليم بوست» (حزيران 2017) تفاصيل ما يُعرف بـ«مبادرة السلام الإسرائيلية»، التي سبق أن بدأت ملامحها تظهر في تصريحات لأعضاء الحكومة الإسرائيلية، إذ أوضحت أن هذه المبادرة «ترمي إلى تحقيق حل شامل ومتعدد الأطراف للنزاع العربي/الإسرائيلي، بدلاً من حل ثنائي للنزاع الفلسطيني/الإسرائيلي»، وأن هذه الخطة ستطرح على إدارة دونالد ترامب.
وللتذكير فإن نتنياهو كان إبان رئاسته أول مرة للحكومة الإسرائيلية (1996-1999) طرح أفكاراً من هذا النوع بديلاً لاتفاق أوسلو وتتعلق بالسلام الاقتصادي، لذا فإن هذه المقاربة الأميركية -التي تجعل الاقتصاد قبل السياسة، والعلاقات العربية قبل التسوية مع الفلسطينيين- أكثر قرباً لهوى نتنياهو وحكومته، خاصة أنهم يرون أن الوضع الإقليمي الراهن يمثل فرصة سانحة لهم لتغيير طابع العلاقات مع محيطهم العربي. 
ويُستنتج من ذلك أن إسرائيل معنيّة تماماً بالتجاوب مع المسار الأميركي المتعلق بالتسوية الإقليمية على خلاف ما جرى في التسعينيات، إذ إن الأخطار التقليدية من الجيوش النظامية باتت من الماضي، لا سيما بعد الانهيار الحاصل في العراق وسوريا.
والمقصود أن كل التحركات والمواقف الجارية الآن تغدو بمثابة نافذة فرص لإسرائيل لفرض أجندتها على الفلسطينيين، وفرض نفسها فاعلاً رئيسياً في الإقليم، وكل أحاديث عن تسوية أو مبادرات لا تصب في هذا الاتجاه لا يمكن أميركا ولا إسرائيل التعامل معها، أما بخصوص السلام العادل والشامل فهذا بات حديثاً للتسلية لا أكثر، فما هو هذا السلام في شرق عربي متفجر؟!
ومن جهة أخرى؛ فإن الأنظمة العربية المعنية والصديقة لأميركا تبدو في هذه الظروف أكثر استعداداً لاجتياز هذه الخطوة، ربما في مقابل مضي واشنطن في مشروعها لتحجيم إيران ونزع سلاحها النووي وإنهاء ميليشياتها في الخارج، ووضع حد لهيمنتها أو لوجودها في سوريا والعراق.
أي أن الثمن أو المقابل لمثل هذه الخطوة لن يكون فلسطينياً -على الأرجح- لأن إسرائيل ستعارض ذلك، وهذا ما يفترض في الفلسطينيين إدراكه والتعامل على أساس منه، والعمل على تفويته إن كانوا ما زال بإمكانهم ذلك.
وقصارى القول، أننا بين خيار تسوية إقليمية ذات بعد اقتصادي وسياسي وأمني، تحسّن وضع كيان السلطة الفلسطينية وتقدم غطاء لها لا أكثر، أو بقاء الحال على ما هو عليه؛ وفي الحالين فإن إسرائيل هي الرابحة إلى حين تغيير المعادلات دولياً وإقليمياً وعربياً.}