العدد 1427 / 9-9-2020
بقلم: ياسر الزعاترة

لا نكتب هذه السطور من أجل موظفي مواقع التواصل، ولا من أجل مثقفين مهمتهم الدفاع عن الباطل، أو التمهيد للمتورّطين فيه، بل من أجل بعض المخلصين الذين يربكهم خلط الأشياء بعضها ببعض عند الحديث عن التطبيع، فيذهبون إلى إجراء مقارنات بين تطبيع قديم وآخر جديد، وأحيانا بين بعض أشكال التطبيع الجديد، وبين الاتفاق الإماراتي الصهيوني الأخير.

لا أجد شخصيا أي مشكلة في المقارنة، فلا علاقة لي بأي نظام، فضلا عن أن أكون ممن يدافعون عن "أوسلو" أو "كامب ديفيد" أو "وادي عربة".

طوال أربعة عقود من الكتابة لم تتغيّر البوصلة بفضل الله، فقد كانت مع فلسطين ومع كل قضايا الأمة في سعيها للحرية والتحرر. وحين تناقض شعار فلسطين مع قضايا أخرى، كما هو الحال مع العدوان الإيراني على الشعب السوري واليمني والعراقي، لم ألتفت لشعارات المقاومة، ولا حتى للدعم المقدم لقواها في فلسطين، لأنني أرفض اتخاذ فلسطين أداة للتغطية على مشروع مذهبي، فضلا عن عدوان على حق شعوب في الحرية والتحرر.

حين طبّعت قطر قديما، كتبت ضد ذلك بلهجة قاسية. وحين تورّطت في خطوات تطبيع من نوع أقل شأنا، مثل التطبيع الرياضي هاجمتها بكل قوة. ولا تسأل قبل ذلك عن العلاقات المصرية والأردنية مع الكيان الصهيوني، وقبل ذلك وبعده مئات المقالات وآلاف التغريدات عن "سلطة أوسلو" ومواقفها البائسة.

ينسحب ذلك بالطبع على كل خطوات التطبيع العربية الأخرى؛ القديم منها والحديث.. ما كان بعد "أوسلو" و"وادي عربة"، وقبل انتفاضة الأقصى، وما كان بعد ذلك.

أما تركيا، فعلاقتها بالكيان طاعنة في القدم، وما نتابعه منذ عقد هو التوتر، وإن بقيت العلاقات قائمة على هذا النحو أو ذاك، بل إن التناقض مع تيار غولن، لم ينفجر في الحقيقة إلا بعد رفض الأخير لتصعيد أردوغان مع الصهاينة في ملف سفينة مرمرة 2010.

كل ما ذكر عن التطبيع أعلاه لم يدفعنا إلى التردد لحظة واحدة في النظر إلى "اتفاق أبراهام" الجديد على نحو مختلف تماما، فهو يتجاوز التطبيع التقليدي إلى شكل من أشكال التحالف مع الكيان الصهيوني في لحظة فارقة عنوانها افتضاح طبيعة الأحلام الصهيونية، بل حقيقة السقف الصهيوني في التعاطي مع الحلول السياسية برمتها، وفي ظل وقاحة استثنائية في الحديث عن متطلبات الحل، ووقاحة أشد في الحديث عن أحلام الهيمنة على المنطقة، وهي الأحلام التي توقف الحديث عنها إثر فشل تحقيقها بعد "أوسلو"، ومن ثم بعد غزو العراق.

من حق البعض أن يجري مقارنات بين التطبيع القطري والتركي، وبين الحلقة الجديدة، وكذا بينها وبين التطبيع المصري والأردني والفلسطيني، لكن الضيق الذي تشعر به (مصر والأردن) حيال ما جرى هو أكبر دليل على تجاوز الخطوة لما فعلاه من قبل وهما دولتان من دول الطوق، وليستا بعيدتين، كما هو حال الإمارات.

من حق البعض أن يجري مقارنات بين التطبيع القطري والتركي، وبين الحلقة الجديدة، وكذا بينها وبين التطبيع المصري والأردني والفلسطيني

نعم؛ "اتفاق أبراهام" هو تحالف مع كيان يعيش أبشع تجليات الوقاحة في الحديث عن فلسطين وقضيتها، ولا يمكن تبعا لذلك أن يُقاس بأي تطبيع آخر، بما في ذلك التطبيع الأردني والمصري، وهو الأكثر وضوحا، فضلا عن التطبيع التركي والقطري.

في الحالة القطرية، هناك انحياز واضح لقوى المقاومة، حتى لو مرّ ذلك من خلال علاقات مع الكيان. ومن يوفّر المأوى لقادة حماس، ويوفر قدرا معتبرا من الدعم، لا يمكن مقارنته بمن يصنّف الحركة التي خاضت حروبا ضروسا مع الكيان في لوائح الإرهاب، فضلا عمن يعتقل بعض رموزها، في ذات الوقت الذي يهاجمها من خلال وسائل إعلامه، ويشيْطنها، بل ويشيْطن كل الفلسطينيين أيضا.

ينطبق ذلك على تركيا التي ورث نظامها القائم علاقات في منتهى القوة مع الكيان الصهيوني، وما لبث يتراجع وصولا إلى أن يجلس رئيس الدولة مع قادة "حماس" في العلن، ويسمح بوجود الكثير منهم في بلده.

من يتابع الإعلام الصهيوني يوميا، يدرك أي عداء يكنّه الكيان لأردوغان، وكيف يصنّفه. وسأنقل هنا فقرة لأحد أهم المحللين السياسيين في الكيان (ناحوم برنياع)، صحيفة "يديعوت"، بتاريخ 31 آب، ويتوفّر مثلها على نحو شبه يومي بطبيعة الحال..

يقول "برنياع" بالنص: "في الأسبوع الماضي دُعيت إلى استعراض صحفي يقدمه برايان هوك؛ المبعوث الخاص في إدارة ترامب لشؤون إيران. تحدث بحماسة عن التهديد الأمني الذي تطرحه الصين على إسرائيل. وقال: "عليكم أن توقفوهم؛ ليس بسبب مصلحتنا بل بسبب مصلحتكم". النموذج الصيني ذو صلة، وكذلك النموذج التركي: عشرات السنين من التعاون الأمني المكثف ضاعت هباءً بسبب رجل واحد اسمه أردوغان، والذي غيّر ذوقه". انتهى كلامه.

حتى التطبيع المصري، لم يصل حد جعل هجاء الشعب الفلسطيني، والتبشير بأهمية الكيان وفضائل العلاقة معه جزءا من خطابه السياسي والإعلامي؛ لا في العهد القديم، ولا حتى في الجديد الذي يمكن القول إنه الأكثر تعاونا في تاريخ مصر مع الكيان الصهيوني، وكذلك حال الأردن الذي لا تخفى علاقاته الأمنية والسياسية مع الكيان، لكن الخطاب الشعبي لا زال عدائيا في العلن، بينما يتوارى المطبّعون خجلا. وأتذكر هنا حين أصدرت السفارة الصهيونية في عمّان بيانا شديد اللهجة ضد كاتب هذه السطور قبل 5 سنوات، بتهمة التحريض على العنف ضد الصهاينة، كيف ردّت عليه نقابة الصحفيين، ونقابات وجمعيات كثيرة، فيما تجاهلته الأوساط الرسمية، مع أن تجريم مساعدة المقاومة في الأعوام الأخيرة كان محطة سيئة دون شك، حتى لو تم تبريرها بشروط المعاهدة.

التطبيع المصري، لم يصل حد جعل هجاء الشعب الفلسطيني، والتبشير بأهمية الكيان وفضائل العلاقة معه جزءا من خطابه السياسي والإعلامي

تبقى "سلطة أوسلو"، في محطتها الأخيرة بعد عرفات، والتي لا يمكن الدفاع عن سلوكها في التعاون الأمني ومحاربة المقاومة، لكنها مع ذلك لم تصل حد الاستجابة لشروط الاحتلال في الحل، رغم ما قدمته من تنازلات مُدانة.

أخيرا؛ نعيد ونكرر: إن كل أشكال التطبيع مجرَّمة ومُدانة، وسنواصل إدانتها دون تردد، لكن السياسة هي رؤية الفروق بين المواقف، وعدم الخلط بين من يجرِّمون المقاومة ويعتبرونها إرهابا، ويشتمون الشعب الفلسطيني ليل نهار، وبين من يساعدون المقاومة، أو يدافعون عنها، وما بين المستويين من ألوان.

الخلط هو شكل من أشكال الدفاع عن الباطل والسقوط، ولا يتورّط فيه الشرفاء، لأن ارتكاب رذيلة من هذا الطرف، لا يجعلها أمرا عاديا من الآخرين، فضلا عن حقيقة أن الرذائل ليست سواء. نقول ذلك، كما أشرنا في البدء، من أجل شرفاء يخلطون بين المواقف، وليس من أجل أبواق تردد ما يُطلب منها دون وازع من عقل أو ضمير.