صابر غل عنبري
أخيراً، وبعد مضيّ عام ونيف على توليه الرئاسة الأميركية؛ نفذ الرئيس دونالد ترامب وعده الانتخابي بالانسحاب من «خطة العمل الشاملة المشتركة» (المعروفة بالاتفاق النووي)، الذي توصلت إليه واشنطن وقوى دولية أخرى مع إيران في 14 تموز 2015، وترجم عداءه الواضح لهذا الاتفاق بوصفه أبرز معالم تراث سلفه الرئيس باراك أوباما.
استقبلت طهران الانسحاب الأميركي بين دعوات بالرد المماثل سريعاً -وخاصة من قبل القادة العسكريين الذين باركوا القرار الأميركي- ودعوات مطالبة للحكومة وأنصارها بالتريث، اختباراً لموقف بقية شركاء الاتفاق (وخاصة الأوروبيين) بعد تأكيدهم البقاء فيه.
على المستوى الفني؛ خروج أحد شركاء الاتفاق النووي منه لا يعني إنهاء الاتفاق وانهياره، لا سيما أن هذا الشريك ليس إيران التي تشكل أحد طرفيه، أما الخمسة الباقون فيشكلون الطرف الآخر. وما دام الطرف الآخر لم ينسحب من الاتفاق مجتمعاً -بل فقط أحد الشركاء فيه انسحب منه- فذلك لا يلغيه.
أما عملياً؛ فإن الانسحاب الأميركي يؤدي إلى انهيار الاتفاق باعتبار أن الولايات المتحدة تمثل الطرف الأساسي بالنسبة إلى إيران في هذا الاتفاق. وإذا صحّ التعبير؛ فإن الاتفاق كان أساساً بين الجانبين دون غيرهما، ثم إن إعادة واشنطن فرض العقوبات -التي رُفعت بموجب الاتفاق نفسه- تعني انهيار أحد العمودين اللذين بُني عليهما (أي رفع العقوبات).
اتفاق بدون أميركا
الحقيقة أنه بعد خروج الولايات المتحدة من الصفقة النووية أصبحت الكرة في الملعب الأوروبي، وبشكل أو آخر الملعبين الصيني والروسي. هذا الموضوع يقودنا إلى سيناريو بقاء الاتفاق النووي دون واشنطن، الذي لمّح إليه الرئيس حسن روحاني في تصريح له قُبيل إعلان ترامب الانسحاب من الاتفاق. فقد قال روحاني: «إذا تمكنا من الحصول على ما نريده من الاتفاق دون أميركا فإن إيران ستظل ملتزمة بالاتفاق.. ما تريده إيران هو أن يضمن الموقعون غير الأميركيين مصالحنا.. وفي هذه الحال فإن التخلص من الوجود الأميركي المؤذي سيكون مناسباً لإيران».
وقد كرر ذلك روحاني في خطابه رداً على إعلان نظيره الأميركي الانسحاب من الاتفاق النووي، فقال: «إذا حققنا أهداف الاتفاق بالتعاون مع الأعضاء الآخرين فإنه سيظل سارياً، وبالخروج من الاتفاق تقوّض أميركا -بشكل رسمي- التزامها تجاه معاهدة دولية».
مع ذلك؛ ربطت طهران موقفها النهائي بمشاوراتها ومباحثاتها مع الترويكا الأوروبية (ألمانيا وبريطانيا وفرنسا) وروسيا والصين، وبموقفهم من الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، وما الذي ستفعله تلك الدول على الأرض.
إلى الآن؛ تؤكد مواقف الترويكا الأوروبية أنهم باقون في هذا الاتفاق، مما يؤكد وجود سيناريو «بقاء الاتفاق النووي دون الولايات المتحدة الأميركية»، ويعطي بصيص أمل من شأنه أن ينقذ هذا الاتفاق.
الآن السؤال الملحّ هو: هل سينجح هذا السيناريو في الحفاظ على الاتفاق النووي؟ الإجابة عن ذلك تتوقف على الإجابة عن سؤال آخر أكثر أهمية حول مدى التزام الترويكا الأوروبية الحليف التقليدي لواشنطن بموقفه هذا عملياً ودوافعه لاتخاذ مثل هذا الموقف؟
هذا الموقف الأوروبي يعود إلى أحد العاملين التاليين: الأول، أن تكون أوروبا -وعلى وجه التحديد الترويكا الأوروبية- قد قررت مواجهة القرار الأميركي فعلاً وعلى أرض الواقع، والثاني، أنه بعد رضوخ الترويكا للإرادة الأميركية -أمام إصرار ترامب على موقفه من الاتفاق- حصل خلال الأسابيع والأيام الماضية التي سبقت إعلان الرئيس الأميركي، تفاهم وتنسيق وفق مبدأ توزيع الأدوار بين الطرفين، بموجبه تعلن الترويكا استمرار التزامها بهذا الاتفاق لتحقيق هدفين:
أولاً، بقاء إيران في الاتفاق ومنع تنفيذ وعوده بالعودة إلى أنشطتها النووية، وكذلك منعاً لانهيار نظام المراقبة الشديدة الذي تخضع له المنشآت النووية الإيرانية بموجب الاتفاق نفسه. وثانياً، استثمار هذا الموقف في مفاوضات محتملة مع إيران، أملاً في أن يحقق اختراقاً في الموقف الإيراني بشأن تعديل الاتفاق النووي تحت طائلة تهديد العقوبات.
المصالح الأوروبية أولاً
تجربة العلاقات الأميركية/الأوروبية -بعد الحرب العالمية الثانية وبالذات منذ سبعينات القرن الماضي- تؤكد أن السياسة الأوروبية (وعلى الوجه التحديد الشرق أوسطية منها) تأتي امتداداً للسياسات الأميركية وليست منفصلة عنها، ورغم وجود فروق واضحة في الشكل والمظهر فإن المضمون ليس مختلفاً كثيراً.
وبناءً على ذلك، وأيضاً المصالح الأميركية الأوروبية المتشابكة والمعقدة؛ يُستبعد أن تخوض أوروبا أي مواجهة فعلية ضد قرار ترامب لاستحالة ذلك، إذ -فضلاً عن تلك التجربة التاريخية- لا يمكن الأوروبيين التضحية بمصالحهم التجارية البالغة أكثر من ألف مليار يورو (سلعاً وخدمات) مع أميركا، مقابل 15 مليار يورو هي حجم التبادل التجاري بين إيران وجميع الدول الأوروبية.
كما أنه رغم التأكيدات الأوروبية المتعلقة بالاتفاق النووي وأهميته لحفظ الأمن والسلم الدوليين؛ فإن المطالب التي ترفعها أميركا -وتتصل بالبرنامج الصاروخي والنفوذ الإقليمي الإيرانييْن- هي مطالب أوروبية أيضاً، إذ كررها مراراً رؤساء ووزراء خارجية الترويكا الأوروبية خلال الفترة الماضية.
وبالتالي؛ فإن الملحق الإضافي أو الاتفاقية التكميلية -التي تطلبها أوروبا من طهران- هي نفس ما تريد الإدارة الأميركية التوصل إليه تحت عنوان «اتفاقية شاملة»، أكد عليها الرئيس ترامب في خطابه. وعليه؛ فإن الفارق في السياستين الأميركية والأوروبية هذه الأيام هو أن الأولى تريد تحقيق هذا المبتغى (الاتفاق الشامل)، تحت طائلة الانسحاب من الاتفاق والتهديد بأقصى أنواع العقوبات.
أما السياسة الأوروبية فتريد ذلك بالإبقاء على الاتفاق النووي نفسه، بشكل ناعم مصحوب بنوع من التهديد. وكما يقول المثل الإيراني؛ فإن أوروبا تذبح بالقطن بينما أميركا تذبح مرة واحدة بالسكين.
أعلنت وزارة الخزانة الأميركية أن العقوبات على إيران ستعود خلال الأشهر الثلاثة أو الستة القادمة، ما يعني أن هناك مهلة ممنوحة أخرى -سواء كانت مقصودة أو غير مقصودة- تتيح للأوروبيين والإيرانيين فرصة التفاوض للتوصل إلى اتفاق تكميلي أو شامل.
وخلال هذه الفترة ستبقى الشركات والمصالح الأوروبية أيضاً في مأمن من خطر العقوبات الأميركية ضد منتهكي العقوبات على إيران بعد إعادتها. وسيبقى الموقف الأوروبي على المحك ليتضح ما إن كانت الترويكا تقف فعلاً أمام القرار الأميركي الجديد أم لا.
وعلى الأرجح؛ سيسعى الأوروبيون والأميركيون لتحقيق ذلك عبر إرغام إيران تحت طائلة التهديد بالخيار العسكري، إذا ما استؤنفت أنشطتها النووية المتوقفة وعلى رأسها التخصيب بمستويات عالية.
انهيار فعلي ونهائي
أمام فشل الصفقة النووية الذي أضعف المؤيدين للتفاوض مع أميركا في الداخل الإيراني، ووضعهم في حالة محرجة للغاية؛ يستبعد جداً أن تُقدم إيران -خلال الفترة المقبلة- على أي مفاوضات مع الأوروبيين بشأن قدراتها الصاروخية ونفوذها الإقليمي الواسع، ناهيكم عن تقديم تنازلات في هذه الملفات تساهم في بلورة اتفاقية جديدة أو تكميلية ترضي الإدارة الأميركية، وتعيدها إلى الاتفاق النووي.
ما يمنع إيران من القبول بتعديل الاتفاق النووي هو أن المطالب الأميركية والغربية لا تتوقف عند إطالة أمد هذا الاتفاق إلى ما بعد عام 2025، ولا عند قصة الصواريخ والنفوذ الإقليمي، وأن المطلوب منها يتجاوز ذلك إلى تغيير أسس سياساتها الداخلية والخارجية، بما يفرّغ النظام الإيراني من المضمون، وصولاً إلى تغيير الموقف من إسرائيل والقضية الفلسطينية، والمطالبة لاحقاً بالاعتراف بالكيان الإسرائيلي.
كما أن قبول إيران بمعادلة تنفيذ الاتفاق النووي من جانب واحد -دون أن تضمن الترويكا الأوروبية وبقية شركائها المصالحَ الإيرانية- يعني استسلامها إلى أبعد الحدود، وهو أمر لن تقبل به طهران.
جاء الرفض القاطع على لسان رأس هرم السلطة في إيران آية الله علي خامنئي، الذي طالب الحكومة الإيرانية -في تعليقه على الانسحاب الأميركي- بأن تخرج من الاتفاق النووي، إذا لم تحصل على ضمانات كافية تؤكد الالتزام الأوروبي بنص الاتفاق وعدم الرضوخ للإملاءات الأميركية. لكنه أبدى -في الوقت نفسه- عدم ثقته بالأوروبيين، مطالباً حكومة الرئيس روحاني بألا تثق بهم.
وفي ظل هذا المشهد المعقد؛ ليس أمام إيران إلا أن تعلن خروجها من الاتفاق أيضاً، واللجوء إلى الخيارات التي كانت تهدد بها قبل القرار الأميركي، أي استئناف أنشطتها النووية وربما الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.
والخلاصة هي أن الاتفاق النووي -في الوقت الحاضر- دخل غيبوبة قاتلة لكنه لم يمت نهائياً بعدُ، وإنعاشه لا يمكن إلا عبر الأوروبيين الذين ستُظهر تصرفاتهم -وليس مواقفهم الكلامية- مدى استعدادهم للتضحية بمصالحهم، في سبيل الإبقاء على الصفقة النووية مع إيران.
وستثبت الأيام أن أوروبا لا تستطيع أن تعرّض مصالحها مع أميركا للخطر حفاظاً على هذه الصفقة؛ كما أن الصينيين أيضاً -رغم خلافاتهم مع الأميركيين- لن يضحوا بروابطهم الاقتصادية المتداخلة معهم؛ وكذلك روسيا التي ستستفيد من انهيار الاتفاق، ومع ذلك ليس بمقدورها إنقاذه.}