محمد هنيد

مؤشرات كثيرة تؤكد للأسف الشديد أن الأزمة الخليجية التي تعصف بدول عربية مسلمة لا تزال في بدايتها. لا نقول ذلك من باب التشاؤم ولا من باب اليأس من السياسة العربية البينيّة على بؤسها، ولكن دلائل كثيرة تذهب هذا المذهب بعد فشل كل الوساطات ودعوات التعقل.
من بين هذه المؤشرات اجتماع المنامة الأخير، وإصرار دول الحصار على مطالب تعجيزية هي أقرب إلى نزع السيادة والوصاية على دولة عضو بالأمم المتحدة منها إلى المقاطعة.
مؤشر آخر لا يقل خطورة عن الأول، ويتمثل في الاتهام الذي أثاره وزير الخارجية السعودي عندما تحدث عن تدويل الحرمين وعن اعتباره إعلان حرب. ثم إن التصريحات التي ينشرها كبار المسؤولين في الدول المحاصِرة أو التي ينشرها الناطقون باسمهم، لا توحي بأن الأزمة في طريقها إلى الحل. ثم إن كثيرين في الخارج والداخل من القوى المحلية خليجياً أو الإقليمية أو الدولية، لا يريدون للأزمة أن تنفرج لأنها تحقق لهم أرباحاً ما كان يحققها لهم الوضع السابق للحصار. 
لكن طبيعة الوقائع وتطورها السريع منذ شهر رمضان وتفاعل حلقاتها بالشكل الذي نعلم يجعل من العسير على الملاحظ والمتتبع أن يتنبأ ولو جزئياً بمستقبل الأحداث، لكننا نشير هنا إلى عنصرين أساسيين:
يتمثل الأول في قناعة راسخة بأن أمر الحصار ومساره لا يملكه الفاعلون الذين يدّعون في اجتماعاتهم الكثيرة أنهم أصحاب الفصل والحل والعقد. فالدول التي أعلنت الحصار ليست في الحقيقة صاحبة القرار النهائي، وإنما تلقت الضوء الأخضر من مصدر خارجي ما. ثم إن القوى الدولية لو شاءت إيقاف الأزمة لأوقفتها في دقائق معدودة، لكنها أزمة تحقق لهم من المكاسب والصفقات ما لا تحققه لهم غيرها من الأوضاع في منطقة الخليج.
أما ثاني هذه العناصر فيتمثل في طبيعة الوقائع التي قد تنفلت في كل لحظة من يد من يعتقد أنه يتحكم في مساراتها. أي أن أزمة الخليج تبدو ذات أبعاد دولية خطيرة، وهي تحمل من العناصر والمكونات والأبعاد ما يفاقم من خطورة استتباعاتها على المدى المتوسط والبعيد. إن انفلات أزمة الخليج من يد الأطراف المعنية بها قد يؤدي في أية لحظة إلى أوضاع شبيهة بوضع حرب الخليج زمن تعنّت صدام حسين أمام مقترحات كثيرة للخروج من الكويت، أو وضع ثورات الربيع العربي قبل انطلاقتها ورفض الأنظمة الاستبدادية كل مطالب الحرية ورفع الظلم عن الشعوب.
الثابت الأكيد اليوم هو أن خيار القوى التي تريد للأزمة أن تمتد هو السائد، اليوم رغم قوة الوساطات ورغم تبين أن الحصار تم عبر قرصنة وكالة الأنباء القطرية من قبل دولة الإمارات كما أثبت ذلك مكتب التحقيقات الفدرالية الأمريكي. من جهة أخرى تبدو دولة قطر قد استنفدت كل الإمكانيات المتاحة لها من أجل إعادة المياه إلى مجاريها داخل البيت الخليجي، لكنها في نهاية المطاف لا يمكن أن تتنازل عن سيادتها وأن تحقق لدول الحصار شروطاً مذلة هي أقرب إلى بنود الاستسلام منها إلى آليات للحوار.
لا يمكن للقطريين الذين توجهوا مؤخراً إلى المؤسسات الدولية من أجل رفع التضييق على حجّاجهم إلى البيت الحرام ومن أجل التعويض عن الخسائر التي لحقت بهم جراء الإجراءات الجائرة، أن يصمتوا طويلاً عن التشويه الذي طالهم وعن الاستهداف الذي كانوا ضحاياه. فاللجوء إلى المؤسسات الدولية هو اعتراف ضمني بفشل المؤسسات الإقليمية عن الاضطلاع بدورها في منع تصدّع البيت العربي والخليجي. 
المشكل الكبير والوضع الخطير يتجلى في ارتباط الأزمة الخليجية الراهنة بسياق عربي وإسلامي بالغ الحساسية. فهي تتنزل في سياق ما بعد الموجة الأولى للثورات العربية، وهي من جهة أخرى ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتحولات الكبيرة التي تشهدها منطقة المشرق العربية وصولاً إلى ليبيا وتونس في الغرب. وليس الحديث عن نظرية الفوضى الخلاقة والحديث عن الشرق الأوسط الجديد وإثارة موضوع معاهدة سايكس بيكو الجديدة إلا عناصر من مؤشرات على هذا الإطار الذي يتشكل ويشكل معه مستقبل المنطقة ككل.
إن تصدع البيت الخليجي لا سمح الله سيكون مرحلة أخرى من مراحل تفتت الكيانات العربية واندثار أنظمتها السياسية القائمة، وليس التبشير بالعلمانية الجديدة في عرين البيت الإسلامي المحافظ إلا واحداً من المؤشرات الدالة على هذا التصدع. لا يزال في الإمكان اليوم رأب الصدّع الخليجي والتبصر إلى حجم المخاطر التي تحدق بالمنطقة بسبب وأد أحلام الشعوب وبسبب دعم الثورات المضادة وبسبب أحلام البعض في الزعامة والعظمة والتجبر. الأمواج القادمة ستكون ضخمة ولن ترحم أحداً إن هي تحرك، لأن الشعوب الهامدة اليوم قد تقلب المعادلة في كل حين، خاصة أنه لم يعد لديها ما تخسره.}