عبد الفتاح ماضي

تزداد الأوضاع في مصر سوءاً مع الإصرار على عسكرة السياسة وتصدّر المؤسسة العسكرية لحل كافة المشكلات التي تمر بها البلاد. يعرض هذا المقال لأربع مغالطات تروّجها آلة الدعاية الرسمية لتبرير الاستمرار في الحكم وقمع كل المخالفين في الرأي من جهة، وكيفية إخراج العسكريين من السلطة وإنقاذ الجيش والمجتمع والدولة من جهة أخرى.
مغالطات النظام
المغالطة الأولى هي أنه ليس هناك أي جهة أخرى تستطيع حل هذه المشكلات سوى القوات المسلحة؛ لكن الحقيقة هي أن العسكريين فشلوا في كل الدول تقريباً، وحتى من استطاع منهم تحقيق بعض الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية لم يستمر في السلطة كثيراً.
في مصر منذ  ثورة تموز 1952 أدت عسكرة السياسة وسيطرة الأجهزة الأمنية إلى كوارث متعددة، بدأت بالتضحية بالديمقراطية وضرب كل القوى المدنية، مروراً بالصراع بين عبد الناصر وعامر، وانتهاء بهزيمة عسكرية لا تزال مصر والدول العربية تعاني من تداعياتها، فضلاً عن انهيار عملية التحديث الاقتصادية لقيامها على فكرة استبعاد الشعب من المعادلة، وعلى غياب أي أدوات للشفافية والرقابة والمحاسبة.
المغالطة الثانية هي الترويج بأن المشكلة الأساسية هي في الشعب، وفي تشكيك الناس بكل الخطوات التي يتخذها النظام. هذه أكذوبة كبرى، فالشعب هو ضحيّة النظام منذ عقود، كما أن كل النظم المطلقة تقوم على هذه الأكذوبة لتبرير فشلها واستمرار تحكمها. 
المغالطة الثالثة هي أن مصر وضعها مختلف عن بقية دول العالم، ولا جدوى من التعلم من الآخرين أو من محاولة الإصلاح. صحيح أن أوضاع الدول لا تتطابق، إلا أن هناك كثيراً من الأوضاع المتشابهة، وهناك حالات مثلت مصدر إلهام لحالات أخرى، كما أن التحدّيات التي واجهتها دول مثل البرازيل وتشيلي والأرجنتين وكوريا وجنوب أفريقيا وإندونيسيا وتايوان وإسبانيا وغيرها، كانت لا تقل عن التحديات التي تواجهها مصر اليوم. 
المغالطة الرابعة تتعلق بالترويج بأن النظام يحافظ على مصالح الجيش المؤسسية؛ وهذه أكذوبة تروّج لها دوائر في الخارج أيضاً. أما الحقيقة فهي أن ما تشهده مصر اليوم هو إعادة العمل بالتجربة الفاشلة لتحكم الجنرالات والأجهزة الأمنية لأجل الحفاظ على مصالح اقتصادية ضيقة لمجموعة من المنتفعين واستجابة لروابط قوية مع نظم إقليمية ودولية لا تريد لمصر ولا للمنطقة النهوض. 
وهذه المصالح لا علاقة لها بالمصالح المؤسسية للجيش. إن مشكلة الجيش الأساسية هي في تسييسه وتوريطه في انتهاكات حقوقية، وفي غياب حكم القانون ودولة العدل والمؤسسات وقواعد الكفاءة والشفافية في الترقيات وتولي المناصب القيادية، وفي غياب أدوات الرقابة والمحاسبة التي تضمن قيامه بدوره الأساسي في الدفاع عن الوطن ضد أي تهديد خارجي.
هذه المغالطات نهايتها وخيمة على الجميع، لا سيّما في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية وقيام النظام بإجراء برنامج تقشف شديد بعد أن أهدر المليارات في مشاريع وهمية، وبعد إصراره على حماية الفساد، وبعد أن رهن البلاد بسلسلة طويلة من القروض.
المشكلة الأساسية في مصر ليس في النظام فقط، وإنما فيمن يعارضون النظام في الداخل والخارج، الذين لا يكفون عن نقد النظام دون أن يمتلكوا القدرة على بلورة مشروع واضح لمقاومته.
وقد تم هذا في حالات عديدة بخطاب سياسي يعلي من أهمية إنقاذ الجيش ذاته ولا يهدد المؤسسة كلها، مع المطالبة بمحاكمة كل من تورط في انتهاكات حقوق الإنسان.
مواجهة التحديات
هذا الهدف الاستراتيجي هو المقدمة الضرورية  لتهيئة البلاد لإخراج العسكريين من السلطة، ومعالجة كافة التحديات الأخرى. ففي بعض الحالات، مثل البرازيل والإكوادور وتشيلي، أدى وجود قوى ديمقراطية متفقة على هدف استراتيجي إلى دفع العسكريين أو فريق منهم (بعد انقسام المؤسسة) إلى إدراك أنّ من الصعوبة الاستمرار في الحكم، ومن ثم قيامهم بترتيب خروجهم منه.
كما أدى وجود قوى ديمقراطية متفقة على الهدف الاستراتيجي في حالات أخرى إلى عقد اتفاق وطني يضمن الانتقال إلى الديمقراطية ويقوم على تطمينات متبادلة بين القوى الديمقراطية وبين القوى التي كانت ضد الديمقراطية داخل الصفوف المدنية (كرجال الأعمال والكنيسة) وداخل المؤسسات العسكرية والأمنية كما حدث في إسبانيا.
وفي الحالات التي حقق فيها العسكريون بعض النجاح الاقتصادي، ما كان لهذا النجاح أن يدفع العسكريين إلى الخروج من السلطة دون وجود قوى سياسية تدافع عن الحريات والحكم المدني والتوزيع العادل للثروات والقضاء على امتيازات الجنرالات والمتعاونين معهم، كما حدث في جنوب كوريا والبرازيل وتشيلي وغيرها.
أما العامل الخارجي المناوئ للديمقراطية والذي يتصور الكثير من المعارضين في مصر أنه عامل مطلق ولا يمكن مواجهته فيمكن تحييده هو الآخر بشرط أن يقوم الداخل بدوره. 
لا يمكن إذن الشروع في معالجة العلاقات المدنية العسكرية إلا بعد انتقال السلطة من العسكريين إلى حكومة مدنية منتخبة ووجود قدر من الاستقرار السياسي، وكلما ازداد النظام الديمقراطي قوة ورسوخاً، اقتربت عملية معالجة العلاقات المدنية العسكرية من النجاح. 
لا تتم المعالجة إلا على يد مجموعة من السياسيين المؤمنين فعلاً بالديمقراطية، والمتفقين على هدف السيطرة المدنية على الجيش، الذين يمتلكون خطة واضحة ومعلنة.
ولا بدّ من تشكيل رأي عام ومجتمع مدني مناصر وضاغط لتحقيق هذا الهدف، وتحويل هذا الضغط إلى برنامج سياسي محدد ومعلن ومطروح للنقاش العام. وتحتاج المعالجة أيضاً مجموعة من الخبراء المدنيين في شؤون الدفاع والأمن، وكسر احتكار العسكريين للمعارف والخبرات العسكرية والاستراتيجية. ولا بدّ أن يبحث المدنيون عن شركاء لهم داخل المؤسسات العسكرية ذاتها، وعدم إشعار العسكريين بالتهديد أو التهميش ولا سيما في القضايا الفنية والعسكرية البحتة.
ولا يمكن إنجاز هذا الهدف إلا بمأسسة كل الخطوات والإجراءات التي تتم، وخاصة تلك المتصلة بوزارة دفاع يرأسها وزير مدني، وخضوع المؤسسات العسكرية والأمنية لمؤسسة القضاء المستقل ولأجهزة الرقابة المتعددة، وإبعاد الجيش تماماً عن أي مشروعات تجارية فيما عدا الصناعات العسكرية التي لها علاقة مباشرة بالدفاع مع إخضاعها لمعايير الشفافية والرقابة، ونزع العسكرة والتسييس من أجهزة المخابرات والأمن.
السكوت يعجل وقوع الكوارث، والحلول لا تهبط من السماء دون عمل، ولا عوامل حتمية في عالم السياسة، وأي جهد من أجل التوعية وامتلاك الإرادة والشروع في العمل سيسهم في قلب كل المعادلات وتغيير ميزان القوة لصالح إنقاذ البلاد والعباد. والله أعلم.