العدد 1357 / 10-4-2019

كان ميلاد حزب البعث العربي في سوريا في 7 نيسان 1947 إيذانا بحقبة جديدة في تاريخ العالم العربي، تركت آثارها العميقة في اثنتين من الدول العربية الكبرى، وارتداداتها في عموم الإقليم.

ورفع المؤسسون شعار أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، وأعلنوا مبادئ الوحدة والحرية والاشتراكية. وعلى مدى مسيرته الطويلة، ارتبطت صورة الحزب بالزعماء الأقوياء، أولئك الضباط الذين وصلوا الى الحكم، وصاروا رموزا لفترة حافلة اختلطت فيها معاني الثورة والانقلاب والوحدة والاستبداد، مع التصدي للقوى الأجنبية.

فماذا بقي من حزب البعث ونفوذه بعد 72 عاما من التأسيس؟ ومن يرفع لواء أفكاره في العالم العربي اليوم؟ وهل بقي لشعاراته صدى في الواقع العربي، لا سيما بعد سنوات الربيع والثورة المضادة؟

العراق.. حزب يتلاشى

منذ تأسيسه، استطاع حزب البعث أن يحكم دولتين عربيتين هما سوريا والعراق، كما أسس تيارات بعثية في العديد من الدول العربية.

وارتبط تاريخ العراق منذ نهاية الخمسينيات بالنسخة العراقية من حزب البعث. فمن سقوط الملكية إلى سلسلة الانقلابات الدامية إلى تعيين صدام حسين رئيسا مدى الحياة، ظل البعث أهم فاعل سياسي بالعراق حتى الغزو الأميركي للبلاد وسقوط نظام صدام.

واقعيا، انطوت صفحة البعث في الحياة السياسية العراقية بعد الغزو الأميركي، مع صدور ما يعرف بقانون اجتثاث البعث (قانون المساءلة والعدالة) بإيعاز من الحاكم الأميركي المؤقت للعراق بول بريمر عام 2003.

وبموجب القانون، طُرد كل من يشتبه في كونه بعثيا من مؤسسات الدولة، وشمل ذلك مئات الآلاف من العراقيين، في حين وقع العديد من قادة الحزب تحت طائلة المحاكمة أو الاعتقال أو الاغتيال.

ميدانيا، صار الحزب شبحا يقوده عزة إبراهيم الدوري نائب الرئيس العراقي الراحل الذي لم تتمكن السلطات من اعتقاله، وظل طليقا يبث رسائل مصورة في مناسبات مختلفة.

وفي آخر تسجيل بارز، ظهر الدوري في نيسان 2018 بمناسبة الذكرى الـ 71 لتأسيس حزب البعث، وتوعد باستهداف سياسيين عراقيين وضرب مصالح عسكرية واقتصادية لدول أجنبية بالعراق إذا لم يطلَق سراح كافة المعتقلين في البلاد.

وما زال للحزب ممثلون يقيمون خارج العراق ويتحدثون باسمه، إذ يؤكدون أن الحزب لم يقل كلمته الأخيرة وأنه ما زال محتفظا بكيانه تحت قيادة عزة الدوري الذي يقود كتائب الحزب لمقاومة النظام الطائفي بالعراق والنفوذ الإيراني، حسب تعبيرهم.

سياسيا، أصدرت السلطات العراقية عام 2016 ما يعرف بقانون حظر حزب البعث والكيانات والأحزاب والأنشطة العنصرية والإرهابية والتكفيرية.

وأعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في آذار 2019 بدء تنفيذ هذا القانون من خلال دائرة شؤون الأحزاب والتنظيمات السياسية في مفوضية الانتخابات، ودعت كل من له مصلحة إلى تقديم شكواه ضد أي نشاط يتعلق بفقرات القانون.

وتقول القوى السياسية الداعمة للقانون إنه يشرع سجن كل من يروج لأفكار البعث أو يمدحها بوسائل الإعلام، وإنه يطوي حقبة سوداء من تاريخ العراق.

سوريا.. حزب يتراجع

أما في سوريا، فمنذ تأسيسه قبل 72 عاما على أيدي ميشيل عفلق وصلاح البيطار وزكي الأرسوزي، رفع حزب البعث شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية، وعُرف عنه تعظيمه المطلق للعروبة، وتأكيده على حق الأمة العربية في أن تحيا كدولة واحدة.

وفي آذار 1963 سيطر الحزب على الحكم بانقلاب عسكري، ومنذ ذلك الحين وهو يحكم سوريا، حيث تغلغلت هياكل الحزب وكوادره في مفاصل المجتمع حتى النخاع.

وفي 21 كانون الثاني 2016 -وفي خضم الثورة السورية- قررت قيادة الحزب حل القيادة القومية بشكل نهائي واستبدالها بمجلس قومي بعثي يرأسه بشار الأسد، وتذرعت بضعف نشاط القيادة القومية وغيابها عن ساحة العمل الحزبي لعقود طويلة، وكذلك لتنفيذ مضمون قانون تأسيس الأحزاب السياسية الذي يحظر على الأحزاب المؤسّسة في سوريا افتتاح فروع خارجية لها.

وهذه الأيام يطوي حزب البعث العربي الاشتراكي أكثر سبعين عاماً من وجوده كانت مليئة بالانفراد التام بالحكم تحت شعارات ومبادئ براقة لكنها ظلت على الورق ولم تخرج من إطارها، ليقرر الأسد الابن في تشرين الأول الماضي حصر نشاط الحزب في حدود سوريا، ونزع الصفة القومية عنه، وهو تطور يعتبر إنهاء لمشروعه التنظيمي العابر للحدود.

الوطن العربي.. حضور باهت

أما على مستوى الوطن العربي، فقد عرف حزب البعث العربي الاشتراكي تمددا في عدد من الأقطار العربية خاصة في ستينيات القرن الماضي إبان نشوء دولة الاستقلال وتنامي أحلام الوحدة، ورغم حظر الحزب في بعض الدول فإن ذلك لم يمنع الناس من اعتناق أيديولوجيته حتى وإن كانوا غير متحزبين.

وباستثناء سوريا والعراق (مهد الفكر البعثي) لم ينجح حزب البعث العربي الاشتراكي في الوصول إلى السلطة بل وعجز حتى عن تحقيق تمثيل جيد في الحكومات والمجالس النيابية التشريعية منها والمحلية، حتى في البلدان التي كان له فيها حضور في الشارع والمشهد السياسي عموما على غرار الأردن واليمن.

وفي السودان لم ينجح حزب البعث العربي الاشتراكي في الحفاظ على وحدته ليشهد خلال عام 2002 انقساما وينبثق عنه حزب البعث العربي الاشتراكي وطن. وتنقل الحزب طوال العقود الماضية بين المعارضة والموالاة، وهو اليوم حزب صغير لا يتعدى عدد أعضائه الألف ولا يحظى بأي تمثيل في مجلس النواب أو المجالس المحلية.

وفي اليمن -الذي يعد أحد معاقل البعث وامتداداته الهامة خارج العراق وسوريا- شهد الحزب بدوره وكأغلب الأحزاب العربية انشقاقا نهاية عام 1994 بسبب خلافات القادة ليصبح هناك حزب البعث العربي الاشتراكي قُطر اليمن الموالي للبعث السوري، وحزب البعث العربي الاشتراكي القومي قُطر اليمن الموالي للعراق.

أما في تونس فقد حصل البعثيون على رخصة لتأسيس حزب بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي، ليتأسس حزب البعث العربي الاشتراكي، لكن الحزب الجديد لم يسيطر على تمثيل التيار البعثي في البلاد إذ ينافسه حزب الطليعة العربي الديمقراطي في نفس التوجه الأيديولوجي، ولم يحصل الحزبان على نتائج تذكر في مختلف المحطات الانتخابية التي تلت الربيع العربي.

وفي موريتانيا بدأ النشاط البعثي فعليا خلال سبعينيات القرن الماضي، ورغم وصولهم إلى منصب حكومي عام 1984 من خلال وزير المعلومات، فإن غزو الكويت أثر كثيرا على هذا التيار من خلال فقدانه الدعم الشعبي والمساعدات المالية العراقية، وانتهى الأمر بتفكك حركة البعث ونشوء حزب الطليعة الوطني على أنقاضها، ورغم حصوله على بعض التمثيل البرلماني والحكومي على فترات متباعدة يعتبر التيار البعثي اليوم غير فعال في المشهد السياسي الموريتاني.

وفي مجمل الأحوال يعيب منتقدو الأحزاب البعثية على هذا التيار تمسكه بخطاب قديم يعود لفترة الستينيات، وعدم سعيه إلى تجديد وسائله في الاتصال والحشد الجماهيري حتى تساير التغيرات المتسارعة التي غيرت كثيرا في زوايا النظر للقضايا العربية.