العدد 1517 /22-6-2022

بقلم: ياسر محجوب الحسين

لا يزال السودان يئن تحت وطأة آثار التغيير السياسي الدراماتيكي في أبريل 2019 وسقوط نظام الرئيس عمر البشير، وتراجعت البلاد تراجعاً غير مسبوق أمنياً واقتصادياً.

فلا ديمقراطية استزرعت فأحيت الأرض بعد موتها فأعجبت الزُّراع، ولا إدارة مركزية بقبضة عسكرية جنبت البلاد شرور التشرذم والتفرق، فغدا الناس طوائف وشيعاً يذيق بعضهم بأس بعض.

وبينما تملك اليأس غالبية القوم فالتزموا مقاعد المتفرجين، أُختصرت الأزمة السياسية في البلاد عسفاً في مكونين، عسكري ومدني، فبلغ سيل الأزمة زُبى الإجراءات الاستثنائية وحالة الطوارئ وذهبت الحكومة المدنية غير مأسوف عليها بعد اسوأ أداء لحكومة مدنية في تاريخ البلاد.

وبلغ الحال سوءًا أن تقدمت الأمم المتحدة للتوسط بين السودانيين، إذ أنها لم تحقق من قبل نجاحاً يذكر في وساطاتها الدولية عبر مسيرتها الطويلة.

الأمم المتحدة ممثلة في رئيس بعثتها في الخرطوم لم تكن محايدة تجاه أطراف الأزمة، بل ظلت منحازة لطرف واحد دون الأطراف الأخرى بما في ذلك الجيش المعقل اليتيم للبوتقة القومية، فأنى لها النجاح؟.

الأمم المتحدة نظمت محادثات مستصحبة معها ممثلين للاتحاد الإفريقي، وبعثة الإيقاد المعنية بالتنمية شرق ووسط أفريقيا، وقد استجاب لها مسؤولون عسكريون وممثلو أحزاب سياسية وقيادات من مليشيات تمرد سابقة، لكن المدهش أن قاطعتها أحزاب أقلية منضوية تحت لواء الحرية والتغيير (المجلس المركزي) وهي الجهة التي تواليها وتنحاز إليها الأمم المتحدة مما حدا بالأخيرة تعليق مبادرتها.

فهذه المجموعة لا تعترف ببقية القوى السياسية وتريد الحكومة خالصة لها وهو الأمر الذي كان من قبل وأسس لديكتاتورية مدنية بطشت بغيرها، فلا نجحت في تنزيل مفاهيم الديمقراطية التي عزفتها نشيدا ولا أمّنت حدا أدنى من كريم العيش لشعب اشتد إحساسه ببؤسه وخصاصته وتضرم شوقه إلى عدالة اجتماعية يستجم فيها من وعثاء لغوبه الطويل، وعبثا حاول رئيس الحكومة السابق عبد الله حمدوك فك وإعادة تركيب حكومته في ثلاث محاولات دون جدوى.

في المقابل ومع نشوب الصراع الغربي - الشرقي في أوكرانيا، عدّلت الولايات المتحدة الأمريكية قليلا من موقفها الداعم لقوى الحرية والتغيير المجلس المركزي، وتدخلت عبر وساطة عرفت عبر دولة عربية وكان هدفها ارسال رسالة واضحة لقوى الحرية والتغيير وفق وزير دولة سابق بالخارجية ومحسوب على الحرية والتغيير، مفادها أن واشنطن غير راغبة في حكومة مدنية قوامها فقط الحرية والتغيير، بل تؤيد الرؤية التي طرحها قائد الجيش في 25 أكتوبر الماضي بتوسيع المشاركة لتشمل كل القوى السياسية، وكان ذلك في اطار سماه الجنرال عبد الفتاح البرهان آنذاك بتصحيح مسار الفترة الانتقالية واعتبرته الحرية والتغيير انقلابا عسكريا.

الموقف الأمريكي الجديد الذي يمثل رياحا تأتي بما لا تشتهي سفن الحرية والتغيير، مرتبط بالصراع في أوكرانيا وتنافس موسكو وواشنطن على استقطاب الحلفاء.

وتتزامن الوساطة الأمريكية مع نشاط روسي في السودان ولقاء السفير الروسي لدى الخرطوم، بوكيل الخارجية السودانية في اطار مساعي موسكو لحل الأزمة السياسية السودانية. وتذكر موسكو الخرطوم بموقفها برفض فرض أية عقوبات على السودان عبر مجلس الأمن.

ولعل تداعيات الأزمة في أوكرانيا على مستوى العالم دعت واشنطن للميل أكثر إلى المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية. فضلا عن عودة مفهوم القوة المادية (العسكرية والاقتصادية)، ونظريات توازن القوة، وتحول القوة.

ولعل واشنطن في هذا الجو لا تريد المضي قدما في استخدام سلاح العقوبات الاقتصادية بحيث ينال ذلك من مصداقية الخطاب والسياسات الأمريكية بشأن النظام الاقتصادى العالمى الحر خاصة بعد عقوباتها التي فرضتها على روسيا.

وهكذا غيرت واشنطن ربما تكتيكيا من خطتها تنصيب ديكتاتورية مدنية قوامها الحرية والتغيير المجلس المركزي، لتدعم سلطة الجيش في الوقت الحالي دون تغيير يذكر في خطابها المعلن بدعم ما تسمية بالتحول المدني الديمقراطي.

في ذات الوقت أثار اللقاء المباشر بين العسكر وقادة الحرية والتغيير المجلس المركزي، والذي اسموه بغير الرسمي غضب قوى سياسية داخل الائتلاف نفسه، خاصة أن الأخير أقدم قبل أشهر على فصل اثنين من قياداته بدعوى تواصلهما مع العسكريين، رافعا شعار (لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية).

ولاحقا برر قادة الحرية والتغيير جلوسهم مع المكون العسكري بـسبب "ضغوط كثيفة مارستها دول غربية وعربية" عليهم في إشارة إلى الولايات المتحدة بمساعدة دولة عربية.

السؤال المطروح هل في حالة توصل الحرية والتغيير إلى اتفاق مع المكون العسكري سيكون أفضل من ذلك الذي وقعه رئيس الوزراء السابق في 21 نوفمبر الماضي أي بعد الاجراءات التي اتخذها قائد الجيش وأدت لخروج الحرية والتغيير من الحكومة؟. المؤشرات تقول أنه سيكون أقل بكثير وسيضعها في اطار حجمها الحقيقي.

لقد عارضت قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) اتفاق حمدوك – البرهان حتى قدم الرجل استقالته، وأعلن عن عدم قدرته على إحداث توافق سياسي مع تصاعد الاحتجاجات الرافضة لاتفاقه مع البرهان والتي كانت تقف من وارئها قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي).

ومضى حمدوك مستاءً جداً من موقف حاضنته السياسية وتصعيدها لخطاب قال استهدفه شخصياً، ومن ثم رفضها مناقشة مشروع ميثاق سياسي مقترح من شخصيات قومية دعمه حمدوك.

لقد حاول حمدوك أن يبين لقوى الحرية والتغيير أن استقالته ستمثل خسارة كبرى لها وهي تقاوم المكون العسكري.

كما أن وجوده كان سيمكنه باستمرار من اتخاذ مجموعة من القرارات تساهم في تخفيف القبضة العسكرية على مفاصل الدولة.

لم يكن حمدوك سعيدا حتى ما قبل اجراءات البرهان في 25 أكتوبر التي تسميها قوى الحرية والتغيير بالانقلاب، فقد كانت قوى الحرية متشاكسة ومتناحرة بشكل عطل العمل التنفيذي تماما وكشف ضعف حمدوك نفسه مما دعا البرهان للقيام بتحركه الذي أفقد قوى الحرية والتغيير مواقعها وسلطتها التي استحوذت عليها وأقصت بقية القوى حتى تقلصت أحزاب قوى الحرية إلى 4 أحزاب فقط مهيمنة ومسيطرة.