العدد 1440 / 9-12-2020

جاءت مجريات زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى العاصمة الفرنسية باريس، والتي وصل إليها يوم الأحد الماضي، واختتمت أمس الثلاثاء، لتؤكد المعلومات التي نشرتها "العربي الجديد" قبل مغادرة السيسي القاهرة، عن تقديم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وفريقه، لملفات التعاون الثنائي في المجالات: العسكري والاقتصادي والاستخباري، بين البلدين، على ملف حقوق الإنسان. وجاء ذلك على الرغم من الاعتراضات الداخلية في دائرة ماكرون والانتقادات الإعلامية والدعوات إلى التظاهر التي أحاطت بالزيارة، بما في ذلك تنظيم احتجاجات أمام الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي) ومقار حكومية أخرى.

وبعيداً عن الجدل المعتاد حول وضعية حقوق الإنسان واستخدام السيسي المتكرر لفزّاعة "الإخوان" والتطرف الإسلامي، بما في ذلك الإيحاء بمسؤولية الجماعة المصرية غير المباشرة عن أعمال العنف التي شهدتها فرنسا أخيراً، حملت إجابات ماكرون تراجعاً واضحاً ومتوقعاً، عن اللهجة الأعلى نسبياً التي تحدث بها في القاهرة قبل عامين تقريباً. وعاد الرئيس الفرنسي إلى اللهجة التي استقبل بها السيسي للمرة الأولى في باريس، حيث مثّل تأكيده على رفض زيادة الضغوط على المصريين لتحسين أوضاع حقوق الإنسان، امتداداً للتصريح الذي أدلى به عام 2017 خلال مؤتمر صحافي مماثل مع السيسي، حين قال: "لن أعطي المصريين دروساً في حقوق الإنسان". واكتفى الرئيس الفرنسي خلال زيارة السيسي هذه المرة بالحديث بإيجابية عن إطلاق سراح النشطاء الثلاثة للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، يوم الخميس الماضي، وأنه أعطى السيسي قائمة تضم أسماء لمعتقلين عدة، على رأسهم الناشط اليساري رامي نبيل شعث، لمتابعة حالتهم بـ"عناية ورفق"، على حدّ تعبيره.

وربما أدت هذه اللهجة إلى إحباط في بعض الأوساط الحقوقية والمعارضة المصرية، التي كانت تعلق آمالا على ماكرون لممارسة مزيد من الضغوط. لكن الواقع الذي رصدته مصادر حقوقية مختلفة في القاهرة، خلال حديثها لـ"العربي الجديد" في أعقاب المؤتمر الصحافي للرئيسين، هو أن الرسائل الفرنسية، على خفوتها ومحدوديتها وضعفها أحياناً، تعتبر الأكثر صراحة والأعلى صوتاً، قياساً بانعدام تأثير معظم العواصم الغربية من جهة، وانشغالها بقضايا أخرى عديدة تربطها بنظام السيسي من جهة ثانية. ويأتي ذلك مع الاعتراف بأن تراجع أهمية مصر إقليمياً ودولياً، لم يعد يسمح بممارسة ضغوط كالتي كانت معتادة في عهد الرئيس المخلوع الراحل حسني مبارك، أو حتى في السنوات الثلاث الأولى من عهد السيسي.

المصادر التي تنتمي لمنظمات حقوقية مختلفة، وبعضها ممنوع من السفر على ذمّة قضايا عدة وسبق التحقيق معها وحبسها، أوضحت أنه على الرغم من تراجع اهتمام رأس الدولة الفرنسية بملف حقوق الإنسان، إلا أن باريس تبقى العاصمة الوحيدة التي يمكن الرهان عليها باستمرار لممارسة أي ضغوط على السيسي. وبحسب المصادر، فإنه في السنوات الأخيرة خصوصاً، بعد تنامي صفقات الاستثمار والأسلحة الألمانية، تراجع بشدة اهتمام برلين بهذا الملف، رغم التعاطف المعلن من المستشارة أنجيلا ميركل ووزير خارجيتها هايكو ماس مع الحقوقيين والمعارضين المصريين. أما إيطاليا، فلا يمكن الرهان عليها، وهي تفشل في تدبير تنسيق أفضل بشأن القضايا التي تخصها مثل مقتل الطالب جوليو ريجيني في القاهرة، بينما تقتصر فاعلية الدول الأوروبية الأخرى على التلويح بوقف المساعدات الاجتماعية والثقافية والقروض في بعض المجالات.

وفي الوقت نفسه، فإن هذه الظواهر مع طبيعة الملاحظات الفرنسية على الملف الحقوقي أخيراً، باتت من المحدودية والاقتصار على حالات بعينها، بما يمنع الحركة الحقوقية والمعارضين المصريين من توقع تسببها في المزيد من الآثار الإيجابية، إذ إن السقف الأعلى، أصبح إطلاق سراح عدد محدود للغاية من المعتقلين الذين تهتم بأمرهم جهات خارجية، والتعامل بهدوء أكبر ودون قسوة، مع منظمات المجتمع المدني المسجلة والمقنن وضعها، بعدما كان التفاوض منذ أربع سنوات، يدور حول مكتسبات أعلى للمعارضة السياسية داخل البلاد ككل.

وهنا أشارت المصادر إلى أهمية إصدار السيسي لقانون العمل الأهلي الملغى وسيئ السمعة عام 2017 بالنسبة لنظامه، حيث أدّى هذا القانون إلى انهيار التوقعات المحلية وخفض سقف التفاوض مع القوى الغربية المهتمة بمصر، بحيث أصبح الأمل الأكبر أن يصدر قانون بلائحة تنفيذية أقل سوءاً وأكثر تحرراً من سيطرة الاستخبارات والأمن. كما خفّض السيسي بذلك تكلفة الهجمات الأمنية التي يشنها نظامه بين الحين والآخر على المعارضين.

وبحسب المصادر، فهناك اعتبارات عدة تحكم وضع رامي شعث، منها صعوبة الإفراج عنه وحده دون باقي معتقلي قضية الأمل الذين كانوا يخططون للمشاركة في انتخابات مجلس النواب الحالية. كما أن نشاط شعث في مناهضة الصهيونية والتطبيع، يمثل عامل إزعاج للأجهزة المصرية. وفي إطار التقارب السياسي الحالي بين السيسي وحكومة الاحتلال، فربما سيكون الإفراج عن رامي شعث رسالة سلبية غير مناسبة.

وبعيداً عن الملف الحقوقي الذي وصفته المصادر بأنه "لم يحظ بالأهمية التي يتصورها كثيرون، خصوصاً في الإليزيه، لكن الاهتمام به كان أكبر في الجمعية الوطنية"، كشفت المصادر الدبلوماسية أن الملف الرئيسي الذي استغرق أكبر وقت في المباحثات سواء في الإليزيه أو الخارجية، وبالطبع في وزارة الجيوش الفرنسية، هو تطوير التعاون العسكري بين البلدين، على ثلاثة أصعدة: الصادرات العسكرية، وخلق شراكات ممتدة ومؤقتة بين الشركات الفرنسية والجيش المصري لإقامة مصانع وورش حربية في مصر، وتنويع وزيادة المناورات التدريبية بين البلدين.