معن البياري

يعرف مثقفون وباحثون سوريون كثيرون طبقات العوار الكثيرة في أداء المعارضة السورية، وتشكيلاتها، وأجسامها السياسية والعسكرية. ويعرفون أيضاً، الأسباب التي أخذت الثورةَ إلى حالها الراهن، مغدورةً ومضروبةً ومنكفئة... هذه واحدةٌ من خلاصاتٍ تيسَّر اليقينُ منها في الأوراق والمطالعات التي شارك بها أصحابها في الندوة الأكاديمية «مآلات الثورة السورية.. ماذا جرى؟ ولماذا؟»، التي نظّمها في الدوحة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يومي السبت والأحد الماضيين. وتُورّطنا هذه الملاحظة في حيص بيص، إذ طالما أن مسارات التيه في خريطة المفاعيل التي ساقت سورية إلى المحنة التي تقتلها، وطناً ودولةً ومجتمعاً، معروفةٌ عند نخبةٍ سوريةٍ عريضةٍ من الباحثين والمثقفين والأكاديميين وأهل الرأي والخبرة، ألم يكن ممكنا الاهتداء بمساراتٍ أخرى، تقلّل من الأهوال الفادحة التي أزاحت الثورة عن مسارها الشعبي والأهلي، وراحت بها إلى العسكرة وسيطرة التشكيلات المتأسلمة، ثم انكشفت سورية كلها أمام مجاميع التشدّد والتوحش والتطرّف، بالتوازي مع تدخلاتٍ عسكريةٍ روسيةٍ وإيرانيةٍ ومليشياويةٍ لبنانيةٍ، ساهمت في استهداف قوى المعارضة المسلحة، وإزهاق أرواح سوريين مدنيّين بلا عدد؟  
فلتت سورية كلها من بين أيدي أبنائها، معارضين وموالين، وقد أوحت أوراقٌ غير قليلة بهذه الحقيقة، بدت مشدودةً إلى التوصيف والتشخيص، وظهرت أوراقٌ أخرى بنزوعٍ تقنيٍّ محض، وهذا مفيدٌ في تظهير الصورة العامة للمشهد السوري العويص، لكنه لا يجيب على سؤالي الندوة المركزيَّين: ماذا جرى؟ ولماذا؟ ولعل مسوّغ هذا الملمح الملحوظ في أوراقٍ كثيرةٍ من الـ27 ورقة التي أوجز معدّوها خلاصاتِها في جلسات الندوة هو حرص المنظّمين على السمت البحثي، والأكاديمي إلى حدٍّ ظاهر. ومثالاً، كانت مهمةً إضاءةُ ورقة سمير سعيفان على مقادير التدمير التي أحدثتها الحرب في سورية. وثمّة، إضاءاتٌ لها أهميتها، توافرت عليها أوراقٌ أخرى، اعتنت بالمعارضة السورية وتكويناتها ومسار المواقف الأميركية من الحالة السورية، وقصور المعارضة عن كسب معركة الرأي العام العربي، وكُرْد سورية والثورة، وغير ذلك من موضوعات. ويمكن هنا التنويه إلى الأهمية المضاعفة للأبحاث التي انشغلت بالمجموعات والحركات والجبهات الإسلامية، الإخوانية والجهادية والسلفية والمتطرّفة، في السنوات السورية السبع الماضية. وفي الوسع اعتبار هذه الأبحاث مصادرَ مرجعيةً في درس هذه الظاهرة عموماً، وقد أنجزها أحمد أبا زيد وحمزة المصطفى وتوماس بييريه وعبد الرحمن الحاج علي ونعومي راميريث دياث وأيمن الدسوقي ومعتز الخطيب.
ولا يُغفل استعراضٌ موجزٌ (ومخلّ ربما) هنا لأعمال الندوة الإشارة إلى الأهمية الاستثنائية لمداخلة المفكّر برهان غليون، بشأن «أزمة القيادة في المعارضة السورية، المجلس الوطني نموذجاً»، فقد اتصفت بجرعةٍ عاليةٍ من الصراحة والمكاشفة، مستندةً إلى تجربة غليون نفسه في رئاسة المجلس بعد تأسيسه، فقد أفاد بأن الصراع على النفوذ والمكانة بين أفراد المعارضة السورية أجهض المجلس، إذ «لم تعمل الأحزاب والقوى المنضوية بدافع وطني، وإنما بشكلٍ مستقلٍّ لمصالحها الضيقة، فتركت الثورة بدون قيادة»، و«هو ما استغلته القوى الإسلامية المتشددة». وقال غليون إن «القوى الدولية لعبت دوراً في تشتيت المعارضة السورية، لكنها ليست السبب الرئيس، وإنما استغلت خلافات أحزاب وأفراد المعارضة السورية». ومعلومٌ أن المفكر المعروف يواظب، منذ نحو ثلاثة أعوام، على تقديم مطالعاتٍ نقديةٍ، على درجةٍ واضحةٍ من الشجاعة في صراحتها، وتعمد إلى تعيين مواضع التردّي الفادحة في أداء المعارضة وتشكيلاتها. ويصبّ ما جاءت عليه كلمة برهان غليون في الإجابة عن سؤالَي الندوة. كذلك ورقة اللواء محمد الحاج علي، التي اجتهدت في الإجابة عن سؤالٍ متصل بهما: لماذا فشلت محاولات توحيد فصائل المعارضة السورية؟ وهو واحدٌ من حزمة أسئلةٍ انشغلت بمحاولات الإجابة عنها أوراقٌ أخرى، طرحها أصحابُها صدوراً عن مسؤوليةٍ وأمانةٍ علميتين، وهذا مبعث تنويهٍ آخر بالجهد المحمود في الندوة عموماً.}