خورشيد دلبي

توحي سلسلة التفجيرات الإرهابية التي تضرب قلب المدن التركية، بأن تركيا باتت في دائرة الاستهداف المباشر. ومع أن وتيرة هذه التفجيرات خفت عقب الانقلاب العسكري الفاشل في تموز الماضي؛ فإنها تصاعدت في الآونة الأخيرة. فمن رمز البلاد السياسي (أي العاصمة أنقرة) إلى عاصمتها السياحية إسطنبول، وصولاً إلى ديار بكر رمز كرد تركيا... وغيرها من المدن، باتت تركيا تشهد سلسلة تفجيرات إرهابية على شكل رسائل سياسية وأمنية، يجمع المحللون الأتراك على أنها تهدف إلى ضرب استقرارها وإظهارها دولة فاشلة.
رسائل سياسية وأمنية
لا يمكن النظر إلى هذه التفجيرات بعيداً عن التطورات الإقليمية، لا سيما تلك التي تشهدها الساحة السورية، وثمة من يربط بين هذه التفجيرات وسياسة تركيا تجاه الأزمة السورية، خصوصاً بعد إطلاق تركيا عملية «درع الفرات» العسكرية الرامية إلى تحقيق هدفين:
الأول: المشاركة في الحرب الهادفة إلى القضاء على تنظيم الدولة (داعش)، حيث تقف القوات التركية والحليفة لها على أبواب مدينة الباب ذات الأهمية الاستراتيجية للتنظيم.
والثاني: وضع نهاية للمشروع الكردي - السوري، من خلال ضرب إمكانية وصل الكانتوتات الكردية بعضها ببعض، لقناعة تركيا بأن ولادة مثل هذا الإقليم الكردي على حدودها الجنوبية سينعكس تصعيداً على قضيتها الكردية في الداخل، حيث اشتداد حدة المواجهة مع حزب العمال الكردستاني وجناحه السياسي حزب الشعوب الديمقراطي.
وانطلاقاً من هذه المعادلة السياسية الأمنية المركبة، نشهد عقب كل تفجير توجيه الاتهام إلى التنظيميْن (داعش وحزب العمال الكردستاني)، رغم اختلافهما في الأهداف والبرامج والأيديولوجيا. وإذا كان حزب العمال الكردستاني نادراً ما يعلن مسؤوليته عن هذه التفجيرات بل وأحياناً يدينها، فإن تنظيم داعش بدأ في الفترة الأخيرة يتبنى هذه المسؤولية، لا سيما بعد إعلانه الحرب على تركيا بسبب انخراطها في الحرب عليه. كذلك لا يتوانى تنظيم صقور حرية كردستان في إعلان مسؤوليته عن بعض هذه التفجيرات. وتتوجه الأنظار أيضاً إلى حركة الخدمة بزعامة فتح الله غولن المتهم بالوقوف وراء الانقلاب العسكري الفاشل، حيث ثمة قناعة عميقة لدى الحكومة التركية بأن الحركة ما زال لديها أنصار كثر داخل المؤسستين الأمنية والعسكرية، وأن هؤلاء يعملون بشكل سري ودقيق لضرب بنية الحكم، وعند الحديث عن غولن تتوجه الأنظار إلى الخارج، ليس لأن غولن يقيم في بنسلفانيا بالولايات المتحدة، بل لوجود قناعة بأن أردوغان وضع السياسة التركية في الموقع المضاد للاستراتيجية الأميركية، بعد أن كانت تابعة لها في إطار عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي طوال العقود الماضية. وينظر إلى ذهاب أردوغان نحو موسكو -على وقع تداعيات الأزمة السورية- باعتبار ذلك تجاوزاً منه للدور الذي رسمه الغرب لتركيا في منظومة العلاقات الدولية.
وعليه فإن جملة الرسائل السياسية والأمنية تتقاطع مع بعضها، وتشي بأن الهدف منها هو ضرب حكم حزب العدالة والتنمية، وتحميل أردوغان المسؤولية عنها على خلفية خياراته السياسية.
من يقف وراء التفجيرات؟
المعروف عن تنظيم صقور حرية كردستان أنه تنظيم سري، وتقول أكثر الروايات شهرة عنه إنه انشق عن حزب العمال الكردستاني عقب اعتقال زعيمه عبد الله أوجلان عام 1999. ظهر التنظيم إلى العلن عام 2004، وهو يتكون من خلايا سرية نائمة، ومعظم عناصره من الشباب، خاصة طلاب الجامعات، وهؤلاء انشقوا عن العمال الكردستاني لأنهم يعتقدون أن سياسته باتت مهادِنة للدولة التركية ولم تعد تناسب حجم العنف الذي تمارسه هذه الدولة ضد الكرد. والظاهرة اللافتة في هذا التنظيم هي أن قياداته غير معروفة، إذ لم يظهر إلى الإعلام أي شخص يتحدث باسمه، وإذا ما صحت رواية تورّطه في هذه التفجيرات فإن المنطق لا يستقيم مع توجيه الاتهامات لحزب العمال الكردستاني الذي لا يتوانى عن القيام بعمليات ضد الجيش التركي، وفي الوقت نفسه يؤكد أنه لا ينفذ التفجيرات في قلب المدن. لكن رواية الكردستاني لا تحظى بثقة الحكومة التركية التي تؤكد أن تنظيم الصقور هو عبارة عن جناح عسكري سرّي تابع له، وأن قضية الانشقاق عبارة عن توزيع للأدوار والمهام في إطار الحرب ضد الدولة التركية، بل تذهب أبعد من ذلك فتقول إن هذه التفجيرات تجري بأوامر خارجية في إشارة إلى إيران والنظام السوري ودول غربية. وإذا صحت الرواية التركية هذه، فإن ثمة أسئلة كثيرة عن مدى انتشار صقور حرية كردستان في المدن التركية، وعن قدراته اللوجستية والأمنية، بل واحتمال اختراقه للأجهزة الأمنية التركية ما دامت التفجيرات تجري في أماكن أمنية حساسة. وفي المقابل، ثمة اعتقاد في العديد من الأوساط الكردية والتركية بأن هذه التفجيرات غير بعيدة عن الصراعات الجارية في قلب المؤسسة العسكرية والأمنية التركية، وأن قضية «الدولة السرية» أو «دولة الظل»، حيث ثمة جهات داخل المؤسسة العسكرية والأمنية ترفض سياسات أردوغان الداخلية، التي تنحو منحى الأسلمة التدريجية وتغيير هوية الدولة والمجتمع، للتخلص من إرث أتاتورك وتطلعاً إلى تركيا منسجمة مع هويتها الإسلامية، وما يترتب على ذلك من خيارات سياسية داخلية وخارجية.
الطرف الرابع الذي تتوجه إليه الأنظار هو تنظيم داعش، فالتنظيم مع تلقيه ضربات في العراق وسوريا، بات يحس بوطأة تأثير انخراط تركيا في الحرب عليه، لا سيما مع محاولة قطع شريان الإمداد الخارجي عنه بعد أن استفاد من الحدود السورية/التركية كمعبر حيوي، سواء للتواصل مع الخارج أو لاستقدام المقاتلين الأجانب إلى ميادين القتال والتدريب.
ولعل التنظيم يرى أن التحولات الجارية في السياسة التركية تجاه الأزمة السورية والتقارب مع موسكو وطهران مبرّر لاستهداف أراضيها، حيث توحي دقة التفجيرات بأنه هو الذي يقف وراءها.
في التداعيات والمواجهة
من حادثة اغتيال السفير الروسي في أنقرة -ومن قبله تفجيرات أنقرة- وصولاً إلى التفجير الإرهابي الذي استهدف نادياً ليلياً في إسطنبول، فإن الخاسر الأكبر من هذه التفجيرات هو تركيا الاقتصاد والمجتمع والاستقرار والتعايش السلمي بين الكرد والترك.
ولعل هذا ما دفع أردوغان إلى القول مراراً إن الهدف من التفجيرات هو زعزعة استقرار تركيا وضرب وحدتها، رابطاً إياها بالتطورات الإقليمية والدولية، ولعله يلمح -من وراء هذا الربط- إلى تورّط أطراف خارجية لديها خلافات مع تركيا وسياستها الخارجية ومواقفها من الأزمتين السورية والعراقية.
ويثير ذلك أسئلة كثيرة عن مدى التنسيق مع تركيا لمنع حصول التفجيرات، والإجراءات الأمنية التي تتخذها السلطات التركية ومدى فعاليتها في تجنب وقوعها. واللافت في كل ما سبق هو أن المواقف الغربية تأخذ شكل الإدانة فقط، وهو ما يعمق الشكوك التركية في دور السفارات الغربية، خاصة في ظل إحساس تركيا بأنها باتت مستهدفة كدولة ونظام.
وثمة من يعتقد أن نشر مثل هذه الفوضى في البلاد بات المدخل الوحيد لتحرك الجيش من جديد أملاً في عودته إلى سدة المشهد السياسي، ولقطع الطريق أمام الانتقال إلى النظام الرئاسي بعد أن انطلق قطاره عملياً في البرلمان التركي.}