ساري عرابي

 لم يسبق للمواقف العربية الرسمية من القضية الفلسطينية -ولا سيما إن تعلق الأمر بالمسجد الأقصى- أن كانت بهذا المستوى من الخذلان. وإن قارنّا التعاطف العربي الشديد مع الشعب الفلسطين، المتضمّن موقفاً يقارب الالتحام النفسي والعاطفي مع الفلسطينيين في مطلع انتفاضة المسجد الأقصى قبل سبع عشرة سنة بالموقف من هبّة المسجد الأقصى الأخيرة؛ فسيتبيّن أن الانحدار قد بلغ قاعاً لم يكن متصوّراً في السابق.
صمت مريب وخذلان متآمر
وإذا كان الموقف العربي الرسمي قد اعتمد سياسة الإنكار التي تبلغ حدّ الطمس للحدث، فإن المواقف الشعبية كانت في أكثر حالاتها ضموراً ووهناً. وبتوصيف سريع يمكن القول إن المواقف الرسمية المعلنة، الممثلة بمواقف الأنظمة والجامعة العربية، اتسمت بالصمت المريب في الأيام العشرة الأولى، ولم تعقد الجامعة العربية اجتماعها الطارئ «الخاصّ بمناقشة التصعيد الإسرائيلي» إلا بعد مرور 13 يوماً على ذلك التصعيد، بينما خضعت المواقف الشعبية لسطوة الأنظمة وأجهزة المخابرات والتوجيه الإعلامي.
وبنظرة على أشكال التفاعل مع الحدث في أكبر بلدين عربيين (مصر والسعودية)، نجد أن شوارع وميادين الأولى قد خلت لأوّل مرّة من أي مظهر من مظاهر التفاعل الشعبي مع القضية الفلسطينية، مما كان مألوفاً قبل انقلاب عبد الفتاح السيسي الذي لم يتناول الحدث إلا متأخراً، وليس ابتداء وإنما في إجابة ركيكة باردة على سؤال، خلت من أي انفعال يرقى إلى مستوى الحدث، وقد ثبت أن نظامه وجّه خطباء الجمعة بالامتناع عن تناول أحداث المسجد الأقصى.
وأمّا السعودية، فإنّ جمهورها على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي ما يبدو اشتغالاً مركزياً للجان الإلكترونية الموجّهة؛ كثّف الدعايات المسيئة إلى الفلسطينيين من قبيل اتهامهم ببيع أرضهم لليهود، منتهجاً مسلكاً من الخلط الذي لا علاقة جوهرية له بالحدث، كالهجوم على حركة حماس وقطر وتركيا والإخوان المسلمين، في دلالة على الضيق الشديد بالقضية الفلسطينية التي عادت لتصدّر المشهد عبر بوابة المسجد الأقصى، وللتغطية على الصمت الرسمي المريب.
أمّا بعد أن اقترب المقدسيون من تحقيق نصرهم، وبعدما تعاظمت خشية حكومة بنيامين نتن ياهو من تصاعد الأحداث بما يصعب تطويقه، وبعدما انتقلت تلك الخشية إلى النظام الإقليمي المتحالف مع «إسرائيل»، إذ بدا صمود المقدسيين -ثم انتصارهم- كأنه يوجّه صفعة لجهود التطبيع الحثيثة، وللمشاريع الإقليمية الخطيرة؛ أخذت تلك الدول نفسها -التي شكّكت في الحدث وفي نضال الفلسطينيين، وحالت دون أي مظهر من مظاهر التفاعل الشعبي مع الحدث- تنسب الانتصار لنفسها وتسرقه من المقدسيين.
الطريق إلى القاع
ثمّة عدد من العوامل دفعت الموقف العربي للانحدار إلى هذه الهاوية في الموقف من القضية الفلسطينية، فأثناء الوقت الطويل الذي مرّ على القضية الفلسطينية اختلّت الأولويات العربيّة؛ إذ أصبحت علاقة مصر بـ«إسرائيل» أفضل من علاقتها بدول عربيّة أخرى، وأصبحت الأولوية السعودية هي العداء لإيران، مع سعي لحمل الفلسطينيين أنفسهم على تبني هذه الأولوية.
وفي أثناء ذلك كانت أحداث حرب الخليج الثانية (غزو الكويت)، وتوقيع منظمة التحرير الفلسطينية لاتفاق أوسلو، ثم انفتاح بوابة التطبيع العربية على إثرها. إلا أن التحوّل الجذريّ بدأ بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 التي بسببها قدّمت السعودية ما صار يُعرف بـ«المبادرة العربيّة للسلام»؛ أثناء التغوّل الإسرائيلي على الضفة الغربية وحصار ياسر عرفات الذي غرق في وحدته إلى موته، بما بدا كأنّها رغبة إسرائيلية عربية مشتركة في تغييبه لتذليل الطريق أمام الخلاص من عبء القضية الفلسطينية.
 يمكن مقارنة المواقف العربية الراهنة من القضية الفلسطينية -بما في ذلك القضايا التي تمسّ المسجد الأقصى- بالتعاطف الواضح الذي أظهرته الحكومات العربية، والجماهير في بلادها مع الفلسطينيين في مطلع انتفاضة الأقصى، إن بالتفاعل الإعلامي الواسع، أو بتسخير أجهزتها ومؤسساتها لجمع التبرعات للفلسطينيين، ولا يمكننا هنا إلا أن نستدعي مظاهر جمع التبرعات الحافلة التي رعتها الحكومة السعودية على تلفزيون الدولة الرسمي.
وحتى الإمارات، التي تبدو اليوم طليعة متقدمة في إدارة مشاريع التطبيع، وربط العلاقات مع الأشخاص والكيانات الأكثر ولاء لـ«إسرائيل» داخل النخبة الأميركية، كان إعلامها في ذلك الوقت متماهياً مع الحالة الفلسطينية، والأمر نفسه يمكن قوله عن مصر، مع إضافة التفاعل الجماهيري الكبير، بما في ذلك النخب الفنيّة التي قدّمت إنتاجاً فنياًً مواكباً للحدث في لحظته.
لا شكّ في أن فشل اتفاق مكّة بين حماس وحركة فتح (المبرم مطلع 2007) عزز الاندفاعة السعودية بعيداً عن الموضوع الفلسطيني، بيد أن التحوّل الجذري بدأ قبل ذلك إثر 11 أيلول، وهنا يمكن ملاحظة عمق التحول لا في إغفال العدوان الطاحن الذي شنّته «إسرائيل» على غزّة نهاية عام 2008 فحسب، بل وفي تبني الرواية الصهيونية عبر القنوات والصحف الممولة سعودياً وإماراتياً ومصرياً، وقد أعلنت تلك الحرب على غزّة من مصر.
السلوك نفسه، المركّب من الصمت المريب وتبني الرواية الصهيونية كان هو طابع سياسات تلك البلدان تحديداً أثناء الحروب التالية على القطاع في الأعوام 2012 و2014، باستثناء مصر في 2012 أي في فترة الرئيس محمّد مرسي، وهي الاستثناء الوحيد من مشهد السقوط الحثيث إلى القاع، والخلاصة أن تلك الدول -التي ترتبط بعلاقة عضويّة خاصّة جداً بالولايات المتحدة- كانت منذ أحداث سبتمبر قد قطعت شوطاً كبيراً قبل بلوغها القنطرة الأخيرة.
ظهر التقاء الثورة المضادّة بـ«إسرائيل» ليس فقط في سلوك السيسي غير المستغرب بما أنه «معجزة إسرائيل» -على حدّ قول عاموس جلعاد الرئيس السابق للهيئة السياسية والأمنية في وزارة الحرب الإسرائيلية، ورئيس مؤتمر هرتسيليا الأخير- ولكن أيضاً في جهود التطبيع المندرجة فيما سمّاها السيسي «صفقة القرن»، وظهر منها حتى الآن الشقّ الذي يمكن تسميته «التطبيع أولاً». يُضاف إلى ذلك التسريبات التي تتأكّد كلّ يوم عن ترتيبات لتصفية القضية الفلسطينية، وتذليل عقبة المسجد الأقصى في هذا السبيل، وهنا يمكن أن نستدعي نشاط الجنرال السعودي المتقاعد أنور عشقي، ومحاولات الضغط على الرئيس الفلسطيني محمود عباس في قمّة البحر الميت الأخيرة للتقدم بمبادرة تهبط عن سقف المبادرة العربية، والحديث عن «تحالف إستراتيجي شرق أوسطي» كما نصّ عليه بيان قمّة دونالد ترامب في الرياض أخيراً. ومع مجيء ترامب إلى منصب رئاسة أميركا، اعتقد نتنياهو وأنظمة الثورة المضادّة أن الفرصة صارت مواتية لتصفية القضية الفلسطينية وإعادة ترتيب المنطقة وفق أجندتهم. ولكن صمود المقدسيين في المسجد الأقصى سدد ضربة قويّة لتلك الترتيبات، فكانت محاولة الالتفاف على صمود المقدسيين وسرقة إنجازهم، لا لأغراض دعائية فحسب ولكن لتفريغ ذلك الإنجاز من مضمونه الجماهيري، المتحرر من إرادات وهيمنة تلك الدول والقريب -في جوهره وشكله- من الثورات العربية.}