عبد الستار قاسم

خاض أهل القدس معركة ساخنة في وجه الاحتلال الصهيوني دفاعاً عن الأقصى وانتصروا، وفي هذا درس عظيم وكبير لكل الشعب الفلسطيني. فإذا تمكن أهل القدس من صناعة أزمة تحشر الصهاينة أمام الرأي العام العالمي وفي وسائل الإعلام، وتستقطب اهتمام دول عديدة في الشرق والغرب؛ فإن من الممكن للشعب الفلسطيني أن يصنع أزمة لهم مع كل إجراء تعسفي يصنعونه.
من الممكن صناعة أزمة بشأن الاستيطان، أو بشأن حق العودة، أو السيطرة على المياه. وإذا فعل الشعب الفلسطيني هذا فإنه سيُبقي الكيان الصهيوني على رؤوس أصابع أقدامه، وسيجد نفسه دائماً المتهم والمسؤول عن التوترات في المنطقة. المؤسف أن الكيان يتمتع بحالة من الاسترخاء الطويل على مدى سني اتفاق أوسلو الذي جعل من الفلسطينيين الأوسلويين حراساً له، يلاحقون إخوانهم دفاعاً عن أمنه واستهتاراً بالأمن الفلسطيني.
الوحدة الوطنية الفلسطينية
تشكل القدس قضية إجماع وطني، ومن الصعب أن يشذ فلسطيني عن الموقف الفلسطيني الثابت منها ومن المقدسات. الكل يجمع على أن القدس مدينة عربية فلسطينية إسلامية، وحمايتها مسؤولية الفلسطينيين والعرب والمسلمين.
ومهما بلغت إجراءات التهويد وتزوير التاريخ فإن الشعب الفلسطيني لن يتخلى عن المدينة. إنها قلب فلسطين، وهي جزء عضوي لا ينفصل عن الكل الفلسطيني، والكل الفلسطيني يصاب في جسده ونفسه إذا تم انتزاع القدس منه.
ولهذا رأينا عملياً وحدة وطنية فلسطينية جماهيرية ميدانية أثناء الأحداث. فقد شاركت كل الأطياف السياسية والاجتماعية والدينية في مواجهة الإجراءات الصهيونية، والكل كان لديه الاستعداد للتضحية والمساهمة الفعالة في مواجهة الاحتلال.
وما جرى يدل بوجه قطعي على أن الانقسامات على الساحة الفلسطينية ليست على مستوى الشعب، بل هي منحصرة في القيادات الفصائلية والحزبية فقط. سياسيو الفصائل والسلطة الفلسطينية مختلفون في ما بينهم ومنقسمون، وهم دائماً يعملون على جرّ الشعب إلى انقساماتهم وتوليد مشاعر البغضاء والكراهية بين الصفوف، والشعب الفلسطيني بصحة جيدة من ناحية الوحدة الوطنية إن سلم من صراعات الفصائل والقادة السياسيين. وما جرى في القدس يؤكد حقيقة أخرى، هي أن الشعب دائماً متقدم على قياداته، وأن القيادات عادة تلهث وراء الشعب لأنه يسبقها في استشعار الخطر والتصدي له.
ورغم ذلك، تحاول القيادات أن تسرق منجزات الشعب وتدّعي أن الخطر لم يكن ليرتد لولا جهودها التي تنحصر غالباً في التصريحات والإدانات والاتصالات مع هذه الدولة أو تلك. لقد كافح الشعب الفلسطيني ميدانياً، والإنجاز هو إنجاز الشعب -وخاصة أهالي القدس- وليس لأحد آخر فضل عليهم.
أبرز ما تجلى في الوحدة الوطنية الفلسطينية أن مسيحيين انضموا إلى الصلاة مع المسلمين تحدّياً للاحتلال. إذ تقدم شباب مسيحيون وانضموا إلى الصلوات، في مشاركة فعالة للمسلمين في قتالهم من أجل المقدسات، وكان من المتوقع أن تخرج مظاهرة من كنيسة القيامة إلى المسجد الأقصى يوم حل الأزمة.
وسبق للمسيحيين أن وضعوا كنائسهم تحت تصرف المسلمين إن تعذرت الصلاة في المساجد. وبذات الروحية يمكن أن يتصرّف المسلمون ما إذا وجه الاحتلال مخالبه صوب الأماكن المقدسة المسيحية.
وبهذا السلوك تقدم الفلسطينيون على كل المجتمعات التي تتعدد فيها الأديان. ففي الوقت الذي أعمل فيه مسلمون مزيفون في دول عربية رصاصهم في مسيحيين وغير مسيحيين؛ يعبر الشعب الفلسطيني عن روح التعاون والعمل الجماعي من أجل تحقيق أهداف وطنية.
المال والتكافل النضالي
دائماً كان المال مصدر تخريب للنضال الوطني الفلسطيني. لقد أفسد المال إلى حد كبير انتفاضة عام 1987، وكذلك الحال بالنسبة إلى انتفاضة الأقصى عام 2000. وطالما تم استخدام المال لشراء الذمم وتحويل الجمهور عن المصلحة الوطنية، بحثاً عن جزء من المال المهدور المسخر لاستقطاب التأييد السياسي لهذا الفصيل أو ذاك.
المال ضروري للقيام بالنشاطات المختلفة ورفع مستوى المواجهة مع الاحتلال. لا يمكن تنظيماً أن يكسب قوة ويرفع مستوى تدريب أفراده وتنظيمهم وتسليحهم بدون المال، لكن المؤسف أن الكثير من المال الفلسطيني لم يكن موجهاً نحو هدف وطني واضح ومعين.
والسؤال هنا يتعلق بكيفية تغطية تكاليف الجماهير المقدسية التي كانت تحتشد عند بوابات المسجد الأقصى.. والجواب عند نساء القدس اللواتي استنفرن منذ اليوم الأول لتقديم ما يستطعن من خدمات للمعتصمين والمرابطين والمرابطات.
نساء القدس حضّرن الطعام ونقلنه باحترام إلى المعتصمين، وزوّدنهم بالماء والعصائر، وفتحن بيوتهن للمتعبين والمرضى والجرحى، وتحولت بعض البيوت إلى ساحات إسعاف. وبهذا ضربن أروع أمثلة نشاطات التكافل الاجتماعي والتضامن.
لقد تجلت النخوة العربية الصادقة في مدينة القدس، وكانت نساء القدس أبرز أبطالها. لم تبخل النساء بجهد ولا بمال ولا بوقت من أجل أن يحقق المعتصمون ما يرضون عنه. وهذا مؤشر قوي على أن سياسة التكافل يمكن أن تنجح في فلسطين، وتغني الشعب عن الإذلال الذي يتعرض له عندما يعتمد على غيره. الاعتماد على الذات هو الوسيلة الأفضل لتحرير الإرادة السياسية للشعب.
تسابقت دول عربية وتنظيمات وأحزاب على إصدار مواقف من إجراءات الاحتلال بحق الأماكن المقدسة. وقد تمحورت هذه المواقف حول الإدانة والشجب والاستنكار والاستهجان، وكلها مواقف لا قيمة لها، وتشكل رسائل طمأنة للكيان الصهيوني.
لم يعد للإدانات أي معنى، وكل من يتعامل بها إنما يقول للصهاينة: «اصنعوا ما شئتم في القدس ونحن لا نملك إلا الكلام الخالي من المحتوى»، وعليه فإن الصمت أرقى بكثير من تناول عبارات الإدانة. والإدانة تحولت إلى جزء من التراث السياسي العربي الذي يعبر عن مدى الضعف الذي ألحقته الأنظمة بالأمة العربية.
المطلوب هو أن تكون المواقف عملية وليست كلامية. المطلوب اتخاذ إجراءات لكي يشعر الصهاينة أنهم يواجهون إرادات قوية حريصة على الأمة ومقدساتها. فمثلاً مطلوب من الأنظمة العربية وقف التطبيع، ووقف كل أعمال التنسيق الأمني مع الصهاينة، ووقف التبادل التجاري، وإلغاء المشاريع الاقتصادية المشتركة.
المطلوب من الأردن ومصر مثلاً هو إنهاء وجود سفارتَي الصهاينة، خاصة أن الأردن خسر الضفة الغربية ومصر خسرت قطاع غزة عام 1967. أخلاقياً لا يجوز لدولتين تتحملان مسؤولية استعادة الأراضي المحتلة أن تصطلحا مع المحتل والمعتدي.
ما بعد الانتصار
اختلف الموقف الشعبي العربي عن المواقف الرسمية إلى حد ما؛ فقد خرجت جماهير عربية للتظاهر دعماً للأقصى وللفلسطينيين الذين يتصدّون للمعتدين. لم تكن تلك المظاهرات بالحجم المطلوب، ولم يكن لها تأثير على الأنظمة العربية، لكن مجرد التضامن ولو الرمزي كفيل بأن يعيد القضية الفلسطينية إلى الوعي العربي.
كانت كبريات المظاهرات في اليمن وتركيا والأردن، وهي كانت ضرورية ليس فقط لدعم المقدسيين، بل أيضاً لإعادة القضية الفلسطينية إلى موقعها الصحيح في وعي العرب. لقد غابت القضية على مدى سنوات عن وعي الجمهور العربي وعن وسائل الإعلام العربية، وأخذ الناس يتناقلون أخبار إقامة العلاقات مع الصهاينة كأن الشعب الفلسطيني قد استعاد حقوقه.
المواجهة مع الاحتلال وتدفق الجماهير إلى شوارع العواصم العربية أرغما الإعلام على تناول القضية الفلسطينية، وحشر العديد من قادة العرب في الزاوية. وكان من تأثير هذا الحراك أن كُبِحَت سرعة التطبيع العربي مع الصهاينة إلى حد ما. كان العرب يهرولون نحو الصهاينة، لكنهم وقعوا في حرج كبير إبان أحداث القدس، واضطروا إلى أن يلبسوا حلة قومية وإسلامية ولو مؤقتاً.
والكيان الصهيوني يحرص دائماً على عدم السماح للفلسطينيين بتحقيق أي انتصار مهما صغر، وذلك للحفاظ على روح الإحباط والمعنويات المنخفضة لدى الناس، لأنه كلما ارتفعت روح الناس المعنوية لحق بالاحتلال أذى، وكلما أصاب الفلسطينيين إحباط ارتفعت معنويات الصهاينة، أي إن هناك حرباً معنوية. هذه المرة لم يستطع الاحتلال تجنب الهزيمة رغم أنها ليست كبيرة؛ ولهذا من المتوقع أن يقوم الاحتلال بعدد من الخطوات ليفسد على الشعب شعوره بالإنجاز، وليعود به إلى حالة الإحباط من جديد. ولهذا لم يكن مستغرباً أن يسمح الاحتلال لمئات المستوطنين بأن يدخلوا باحات الحرم القدسي يوم الثلاثاء أول آب 2017، وهي رسالة للمسلمين بأن الباحات منتهكة وستنتهي بانتهاك المسجد نفسه. ولهذا مطلوب من الفلسطينيين البقاء متيقظين ومفتوحي العيون والآذان، فهذا عدوّ غادر لا يؤمن جانبه بتاتاً
وفي النهاية، هل يرتقي المسؤولون الفلسطينيون إلى مستوى المسؤولية ويعيدوا حساباتهم ويقيموا علاقاتهم مع الاحتلال؟ صحيح أن رئيس السلطة المنتهية ولايته أعلن وقف الاتصالات مع الاحتلال، لكن هذا لا يكفي. يجب إلغاء كل الاتصالات مع الاحتلال، وبحث إلغاء الاتفاقيات المعقودة معه، والعودة إلى الوحدة الوطنية ومشروع المقاومة.}