العدد 1518 /29-6-2022

بقلم: علي أنوزلا

يواجه الاقتصاد المغربي تحدّياتٍ كبيرة في ظلّ ارتفاع الأسعار العالمية، لا سيما النفط والغاز والمواد الغذائية الأساسية، بسبب الحرب في أوكرانيا وحالة التضخّم العالمي، ومما زاد من حدّة هذه الأزمات غير المسبوقة أن البلاد تواجه موسم جفافٍ قاسٍ، كون القطاع الزراعي يساهم بنسبة 14% من الناتج المحلي الإجمالي. ويتوقع الخبراء أن يكلّف تكالب هذه الأوضاع على اقتصاد منهك ما زال لم يتعاف من انعكاسات أزمة جائحة كورونا، ما بين 1% و2% من الدخل الوطني هذا العام.

على أرض الواقع، بدأت هذه الأزمات تلقي ظلالها على وضع اجتماعي محتقن منذ عدة سنوات، نتيجة إهمال الحكومات المتعاقبة الشرائح الاجتماعية الهشّة، وإجهازها على القدرة الشرائية للطبقات المتوسطة التي تعيش على حافّة الفقر. وقد بدأت فعلا مظاهر الاضطرابات الاجتماعية في البروز في أكثر من مدينة مغربية، لكن حالة الطوارئ التي فرضتها السلطات المغربية للحدّ من تفشي وباء كوفيد ـ 19، وما زالت مستمرّة، تستعملها الدولة لمنع كل أنواع الاحتجاجات ذات الطابع الاجتماعي، بمبرّر الحفاظ على الأمن والنظام العامين. ولكن حتى قرارات المنع الصارمة لم تمنع المواطنين من النزول إلى الشوارع في عدة مناسبات للاحتجاج على موجة الغلاء غير المسبوقة التي تشهدها الأسعار، خصوصاً قطاع المحروقات. وأمام قرارات المنع التي أدت إلى تبلور حركة احتجاجية قوية في الشارع، تشهد مواقع التواصل الاجتماعي تصاعد غضب مستخدميها من الارتفاع المستمر والمتصاعد للأسعار أمام شبه لا مبالاة حكومية بما تقاسيه الشرائح الأكثر تضرّراً من غلاء المعيشة، فأغلب الإجراءات التي اتخذتها الحكومة المغربية ظل أثرها محدوداً في الحدّ من حالة التضخم التي تعرفها أسعار المحروقات التي يؤثر ارتفاعها مباشرةً على أغلب السلع الأخرى، خصوصاً تلك الأساسية. وبالتالي، لم يصل أثر تلك الإجراءات إلى الطبقات الأكثر تضرّراً من حالة الأزمة غير المسبوقة التي تشهدها البلاد.

وكلما تأخّرت الحكومة في التحرّك، أو أبدت لا مبالاتها، فإن الاضطرابات الاجتماعية آخذة في التصاعد، فقد أضرب مهنيو النقل في أكثر من مدينةٍ مغربية، وأعلن اتحاد الخبازين تحرير سعر الخبز الشعبي، وباتت جميع الشروط متوفرة لظهور استياء شعبي حقيقي، من شأنه أن يشكل تهديدا حقيقيا للاستقرار الاجتماعي للبلاد، إذا لم يشعر الناس بأن الحكومة تُنصت إلى معاناتهم. ومن المطالب التي تبرز حاليا وضع سعر مرجعي للمحروقات، لأن أي ارتفاعٍ لأسعارها ينعكس مباشرة على أسعار جميع القطاعات، ونحتاج إلى أن نُذكِّر بأن الحكومة السابقة في عهد الإسلاميين هي التي أقدمت على تحرير سوق المحروقات، وسحب الدعم الذي كانت تخصّصه الدولة لهذا القطاع الحيوي. وللمفارقة، فإن الحزب الإسلامي نفسه الذي كان يرأس تلك الحكومات هو الذي يطالب اليوم، بعدما أصبح أقلية في صفوف المعارضة، بوضع سعر مرجعي لسعر المحروقات! وكما لكل أزمةٍ تجّارها الذين يستفيدون منها، فإن أكبر المستفيدين من ارتفاع أسعار المحروقات في المغرب هي الشركات الموزّعة لها التي راكمت أرباحا كبيرة حتى قبل اندلاع الحرب الأوكرانية. ولن نكشف عن جديد إذا علمنا أن هذه الشركات مملوكة من صناع القرار الرئيسيين في المغرب، في مقدمتهم رئيس الحكومة الحالية ورجل الأعمال، عزيز أخنوش، الذي يملك أكبر شركة توزيع للمحروقات في المغرب، تليها شركة مملوكة للهولدينغ الملكي. وحسب تقرير أعده برلمان العهدة السابقة، راكمت شركات توزيع المحروقات ما يناهز 17 مليار درهم (نحو 1.6 مليار يورو) ما بين 2015 و2018، وبرأي نقابيين، ارتفعت هذه الأرباح الآن إلى أكثر من 32 مليار درهم (نحو 3.1 مليارات يورو)، وهو ما يجعل الحكومة الحالية التي تدّعي أنها ليبرالية، وتتبنّى سياسة اجتماعية، تتعرّض لانتقادات واسعة بسبب تقاعسها في مواجهة الاستياء الاجتماعي المتزايد، وتتوجّه حدّة هذه الانتقادات إلى رئيس الحكومة، بوصفه رئيس الجهاز التنفيذي المسؤول الأول عن معالجة حالة التضخم التي تعرفها الأسعار، لكن أيضاً لكونه المستفيد الأول من معاناة الشعب المفترض أنه يمثله!

أعاد هذا الوضع الشاذ إلى الواجهة الجدل الحاضر دائما في المغرب عن زواج السلطة والمال. ولكن أمام حدّة الأزمات الحالية وانعكاساتها القاسية على حياة ملايين المغاربة الذين يعيشون تحت خط الفقر، أو على حافة السقوط تحت هذا الخط، يصبح السؤال أخلاقيا، رغم أنه لا وجود للأخلاق في السياسة أو في أعراف السياسيين، فقد سبق للمغاربة أن عانوا من رؤساء حكومات ضعاف أو غير فاعلين، وآخرين سيئين إلى درجة لا يمكن تحملها. وقد أقدم رئيس الحكومة السابق، الإسلامي، عبد الإله بنكيران، على إلغاء الدعم الذي كان مخصصا للمحروقات وحرّر سوقها، ولكن لم يسبق للمغاربة أن جرّبوا رئيس حكومة جشعاً، مثل رئيس الحكومة الحالية. ولو كان المغرب بلداً ديمقراطياً فعلاً، وليس شكلاً فقط، فإنّ جَمْعَهُ بين رئاسة الجهاز التنفذي وامتلاكه أكبر شركة توزيع للمحروقات في البلد تستثمر في أزمة ساكنته، وحده مدعاة لأن يستقيل الرجل من منصبه، هذا إذا لم يحاكم لكونه يستغل المنصب الحكومي لتحقيق ربحه الشخصي. نحن أمام حالة استثنائية لرئيس حكومةٍ يبدو شبه منفصل عن الواقع، فهو لم يخرج ليشرح للمغاربة سبب غلاء معيشتهم اليومية، وحتى لا نتّهمه بعدم الالتزام بالمصلحة العامة، الذي يفرضه عليه منصبه بحسب الدستور، فإنّ كل ما يمكن أن يقال إنّه يبدو مهتماً بمصالحه أولاً وأخيراً، واستمراره على رأس الجهاز التنفيذي إهانة لذكاء المغاربة الذين يعانون في صمت، بينما يجني رئيس حكومتهم أرباحاً خيالية، يقول من يقول إن الجزء الكبير منها غير شرعي، فيما يدرك أن بمقدوره، بل ومن صلاحياته أن يخفّف من معاناة مواطنيه، لو أنه فقط تخلى عن جزء من أرباحه تلك.

يعرف كلّ من يتابع الشأن المغربي كيف تجري الانتخابات في البلاد، ويعرف أنّ الحكومات لا تحكم وإنما تنفذ. وبالتالي، لا يجب أن ننتظر من رئيس الحكومة الحالية أن يستقيل بنفسه، فهذا الفعل الشجاع والنزيه لم يسبق أن أقدم عليه أي رئيس حكومة قبله، وإذا ما استمرّ الوضع متأزماً في البلاد، فإنّ من سيستقيل هو صبر المواطن، إذا ما استمرّت الحكومة الحالية العاجزة ورئيسها الجشع في تجاهل مطالبه وعدم الإنصات إلى صوته.