العدد 1423 / 29-7-2020
بقلم: أسامة أبو ارشيد

لا يمكن فهم الأزمة السياسية في تونس خارج سياق تآمر محور الثورات المضادة، لوأد فرص نجاح أي تجربة ديمقراطية في الفضاء العربي، بما يعنيه ذلك من إمكانية تحولها إلى أنموذج قد تطالب الشعوب العربية الأخرى بتعميمه يوماً. ولن ينسى محور الثورات المضادة أن تونس كانت فاتحة التغيير في المنطقة، عبر ثورة الياسمين، أواخر عام 2010، والتي أطلقت ما عرف حينها بـ"الربيع العربي"، والذي زلزل عروشاً، وأسقط أنظمة، أو واجهات لها. ولكن، إذا كانت ضربات الثورات العربية المتلاحقة والسريعة، في غير دولة، قد أفقدت محور الثورات المضادة اتزانه حينها، فإنه اليوم أكثر تمكُّناً من زمام الأمور، وهو ما أهّله إلى المبادرة والمباغتة.

كان التحرّك الشعبي في البحرين شديد الوطأة، رمزياً، على كل من السعودية والإمارات، إذ كان في حديقتهما الخلفية، ولكن السيطرة عليه واحتواءه لم يكونا عملية صعبة. أما الثورة المصرية، وما ترتب عليها، فقد كانت هي الأخطر على منظومة الاستبداد العربي الرسمية، لما لمصر من ثقل عربي، ولما تختزنه من قدرة على إحداث تغييرات إقليمية واسعة، بما فيها بنية الوعي العربي و تمثلاته السياسية. ومن ثمَّ، كانت مصر "الساحة الصفر" لمؤامرات محور الثورات المضادة، والتي تواطأت فيها الدولة المصرية العميقة، فهي، من حيث التعريف والمنشأ، عضو أصيل في ذلك المحور اللئيم. ولأن جلّ جهود التخريب كانت منصبةً على مصر، فإن التجربة الديمقراطية الوليدة في تونس حظيت بمساحةٍ لا بأس بها للتنفس والتطوّر، وإن كان ذلك تمَّ بشكل قلق. ومع مطلع عام 2013، دخلت تونس دائرة الاستهداف المباشر، باغتيال المحامي والسياسي اليساري، شكري بلعيد، في شباط، وترتب على ذلك أزمة سياسية في البلاد، بتحريض مباشر من محور الثورات المضادة، وبتنسيق مع امتداداته التونسية، جرّاء توجيه أصابع الاتهام إلى حركة النهضة التي كانت تقود حكومة الترويكا. وقد اضطر حمادي الجبالي إلى تقديم استقالته من رئاسة الحكومة بعد أيام قليلة من جريمة الاغتيال.

مع الانقلاب العسكري في مصر، في تموز 2013، والاستعصاء في سورية، ونجاح أصابع العبث والفوضى في اليمن وليبيا، تركّزت جهود محور الثورات المضادة على تونس مجدّداً. لم تكن الرمزية التونسية محصورةً في فَرْطِ مسبحة التغيير عربياً، بل الأخطر من ذلك، في مقاربة منظومة الاستبداد ، يتمثل في تقديمها نموذجاً للحكم التوافقي، القائم على شرعية صندوق الانتخاب، على الرغم من العلات الكثيرة هنا. ليس من المقبول، في عرف أنظمة الاستبداد تلك، أن تنجح تيارات إسلامية وأخرى علمانية، بتلويناتها المختلفة، في اجتراح صيغ حكم مشترك، متجاوزة للإيديولوجيا، إذ تَعُدُّ هذا خطراً داهماً عليها، بما قد يمثله من مصدر إلهامٍ للشعوب العربية التائقة إلى الحرية. ومن ثمَّ لا عجب أن كثيرين في تونس لم يتردّدوا في اتهام دولٍ، كالسعودية ومصر، وعلى الأخص الإمارات، في افتعال التوترات والانقسامات وتغذيتها في بلادهم. ويتناقل سياسيون تونسيون أن الإمارات عرضت، على الرئيس الراحل، الباجي السبسي، رشوة بقيمة ثمانية مليارات دولار للتحلل من تفاهمات حزبه، نداء تونس، مع حركة النهضة، والتي هندسها شخصياً مع زعيم الحركة، الشيخ راشد الغنوشي. ولكن السبسي رفض أن يغامر بأمن بلاده واستقرارها إرضاء لنهم محمد بن زايد بإشاعة الفوضى.

ولذلك كله، من السذاجة افتراض أن محاولات رئيسة الحزب الدستوري الحر، النائبة عبير موسى، وكتلتها النيابية، تعطيل أعمال البرلمان، ودعوتهم إلى الانقلاب على الشرعية فيه، بقيادة الغنوشي، منبتة عن السياق السابق. موسى هذه كانت مسؤولة سابقة في التجمع الدستوري الديمقراطي، وهو حزب الرئيس المخلوع، زين العابدين بن علي، إذ تمَّ تعيينها، عام 2010، نائبة للأمين العام للمرأة فيه. وكانت من أبزر مناهضي الثورة التونسية، وثمَّة تسجيلات فيديو تظهرها، مطلع عام 2011، وهي تقود مظاهرة نسائية تهتف لبن علي وترفع صوره. أما الحزب الدستوري الحر الذي ترأسه فيُنظر إليه على أنه امتداد لحزب بن علي المنحل، وبعض نوابه الستة عشر في البرلمان التونسي، أعضاء سابقون فيه. ويمثّل هذا كله "مؤهلات" في مقاربة محور الثورات المضادة الذي سارع إلى احتضان هذه السيدة، خصوصاً أنها تملك لساناً سليطاً. وليس من قبيل المصادفة أن تُفَتَّحَ لها أبواب الإعلام الإماراتي والسعودي والمصري لشن الهجوم على "زعيم تنظيم الإخوان المسلمين" في تونس، أي الغنوشي، الذي تسعى إلى التحشيد ضده في البرلمان الذي يترأسه لطرح الثقة فيه.

ما يعطينا جرعة من الأمل أن في تونس شخصيات وأحزاب علمانية، بتفريعاتٍ مختلفة، ممن هي على خلاف مع "النهضة" إيديولوجياً وسياسياً، ولكنها مع وطنها وتماسك نسيجيه، الاجتماعي والسياسي. يرفض هؤلاء محاولات جرِّ تونس إلى فلك جرائم بن زايد، ومحمد بن سلمان، وعبد الفتاح السيسي. كما يرفضون إشعال فتيل حرب أهلية في بلادهم، ونقض تجربة ديمقراطية، على ما فيها من هنات، تمثل مصدر فخر لنا في واقعنا العربي الآسن. لا تقدّم النماذج الإماراتية والسعودية والمصرية اليوم شيئاً يمكن له أن يُشَرِّفَ تونس. تلك دول قمعية، فاشلة، زرعت، وتزرع الموت والدمار في عموم المنطقة العربية.

أمر أخير نرجوه، وهو أن لا نُفْجَعَ بموقف سلبي مما يجري من الرئيس، قيس سعيد، الفقيه الدستوري الذي استبشرت الشعوب العربية بفوزه بمنصب الرئاسة، متحدثاً بعز وافتخار بلغة العرب الفصحى. توعد سعيد "العملاء" و"المتآمرين" على تونس بغرض إدخالها في حالة من الفوضى، وتعهد بصد أي محاولة "للانقلاب على الشرعية". نتمنّى أن لا تتوجه "الصواريخ على منصات إطلاقها"، التي قال إن الدستور يمنحه إياها، إلى مؤسسة البرلمان بهدف إضعافه، بقدر ما أن يتمَّ توجيهها بهدف استعادته من أقليةٍ تعمل على اختطافه، تمثّلها موسى وحزبها، والذين هم بدورهم مجرّد أدوات إماراتية لا تريد خيراً بتونس وشعبها.

خلال المناظرة التلفزيونية التي جمعت بينه وبين منافسه على الرئاسة، نبيل القروي، العام الماضي، وصف سعيد التطبيع مع الكيان الصهيوني بـ"الجريمة والخيانة العظمى". ما تقوم به عبير موسى، ومعها أعضاء الحزب الدستوري الحر، نيابة عن الإمارات، لنشر الفوضى في تونس ووأد تجربتها الديمقراطية، لا يقل "جريمة وخيانة عظمى" عن التطبيع مع إسرائيل. الهجوم على حركة النهضة، بزعم خلفيتها "الإخوانية"، ليس إلا ذريعة رخيصة لنقض التجربة التونسية الرائدة، وبالتالي إجهاض الحلم العربي بالانعتاق من ربقة الاستبداد والتخلف.