العدد 1382 / 16-10-2019

بقلم : سمير حمدي

أفرزت الانتخابات البرلمانية في تونس مشهدا نيابيا جديدا، فيه ثوابت ومتغيرات فتحت المجال أمام تكهنات متضاربة بشأن طبيعة الحكم في السنوات الخمس المقبلة. فمن ناحيةٍ، استفادت قوى حزبية مختلفة من حالة التمرّد التي عرفتها توجّهات التصويت لدى الناخب التونسي، وكانت قد تجلت في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية مع الصعود القوي للمرشّح المستقل، قيس سعيد، وهو ما فتح المجال واسعا أمام قوى صغيرة وائتلافات سياسية ناشئة لتحتل موقعا تحت قبة البرلمان.

كان صعود ائتلاف الكرامة، وهو تحالف قوى ثورية وغاضبين من التيار الإسلامي، مترافقا مع نتائج جيدة لحزب التيار الديمقراطي، وهو حزب ليبرالي اجتماعي، بالإضافة إلى حركة الشعب، ذات الخلفية القومية تعبيرا عن توجهٍ لدى الناخب التونسي، لتجديد الوجوه الناشطة برلمانيا ورسالة واضحة للقوى السياسية المهيمنة سابقا أن المزاج العام لم يعد يقبل التأجيل في تحقيق مطالبه الأساسية المرتبطة بثورة الحرية والكرامة.

من جهة أخرى، ظلت حركة النهضة، وعلى الرغم من تراجعها النسبي، الثابت الحزبي في المراحل المختلفة لتحولات المشهد السياسي منذ ثورة 2011. في المقابل، عجزت القوى الحزبية المحسوبة على المنظومة السياسية المهيمنة منذ ما قبل الثورة عن تحقيق فوز مشابه لما حصل سنة 2014، بالنظر إلى تشتتها وعجزها عن إيجاد شخصية جامعة تمثلها، لنجد أنفسنا أمام انهيار كلي لحزب نداء تونس الذي انخفض عدد نوابه من 86 نائبا سنة 2014 إلى ثلاثة نواب في الانتخابات الحالية، فيما تطايرت شظاياه الحزبية في فصائل مختلفة عجزت عن وراثة رصيده الشعبي، لنلاحظ حضورا محتشما لأحزاب تحيا تونس ومشروع تونس وآفاق تونس، وربما كان "قلب تونس" التابع للمرشّح الرئاسي، نبيل القروي، أفضلهم حالا من حيث النتائج، بما حققه من حضورٍ ناتجٍ عن دعاية مكثفة، استخدمت أسلوب الرشوة السياسية للناخبين، عبر توزيع المساعدات العينية. وفي المشهد نفسه، اختفى اليسار التونسي، ممثلا في الجبهة الشعبية، وعجز عن تحقيق مجرد حضور رمزي في المجلس الجديد.

غير أن الصورة لم تكتمل بمجرّد توارد أنباء الفائزين والذين خسروا، فالسياسة في تونس، وكما عرفتها البلاد منذ تحولها الديمقراطي، لا تُدار في البرلمان فحسب، وإنما تصنعها التحالفات والحسابات في الغرف المغلقة، والتقاطع بين القوى الحزبية والقوى النافذة اقتصاديا، مثل اتحاد الأعراف أو اجتماعيا ونقابيا مثل اتحاد الشغل. ومن هنا، فإن أي تشكيل حكومي مقبل ستعترضه مشكلات جمة، أهمها طبيعة التشكيلات الحزبية التي يمكن أن تتحالف لتشكيل الحكومة الجديدة، في ظل الخلافات الحادة بين الأحزاب السياسية الفائزة، سواء في التقديرات، أو في المصالح وفهمها طبيعة المرحلة.

من الطبيعي، من الناحية الدستورية، أن تكون كتلة حركة النهضة هي التي ستحظى بالتكليف لرسمي لتشكيل الحكومة، باعتبارها الكتلة النيابية الأكبر، وهو ما فتح المجال واسعا لجدل علني بين الكتل بشأن طبيعة مواقفها المقبلة، فقد أعلن حزب التيار الديمقراطي، على لسان رئيسه، محمد عبّو، مباشرة بعد إعلان النتائج رفضه التحالف مع حركة النهضة، ليتراجع لاحقا ليربط أي مشاركة من خلال الحصول على وزارات محدّدة (العدل والداخلية والإصلاح الإداري). وتبدو حركة الشعب في موقف الرافض للمشاركة في الحكم. وفي حال استمرار حالة الاشتراط والرفض لدى كتل نيابية مختلفة، قد تجد تونس نفسها في حالة انغلاق سياسي لا يتمناه أحد.

بالتوازي مع الحراك الحزبي المتصاعد بين القوى الفائزة، بدأت القوى المؤثرة من خارج الأحزاب تحرّكاتها من أجل تأكيد حضورها، فقد اجتمع الرباعي الحاصل على جائزة نوبل للسلام 2015، ممثلا في اتحاد الشغل واتحاد الأعراف ونقابة المحامين ورابطة حقوق الإنسان، ليصدر بيانا يحمل نوعا من التحذير للقادمين الجدد إلى السلطة، وهو موقفٌ يتقاطع مع مواقف القوى الخاسرة انتخابيا، مثل الجبهة الشعبية، بما يعني أن أي حكومةٍ مقبلةٍ ستكون تحت ضغوط مختلفة بعضها من القواعد التي تريد تحقيق البرامج التي وعدت الأحزاب الفائزة بها، وبعضها من القوى النافذة التي لن تقبل أي تغيير جذري للمشهد، وضغط القوى الخاسرة التي تظل، على الرغم من فشلها في الصعود إلى البرلمان، مؤثرةً في الشارع، إذا تقاطعت مواقفها ومصالحها السياسية، وهو أمر رأينا نظيرا له سنة 2013 زمن حكم الترويكا.

النتائج الانتخابية في تونس، وإنْ تعبر عن سياق ثوري عام تشهده المنطقة العربية عموما، فإنها تفيد بأن الحسابات الضيقة غالبا ما تفسد جهد الجماهير التي تتحرّك دائما، لتعيد الأمور إلى نصابها، سواء عبر التصويت العقابي، أو حتى عبر حضورها في الشارع، وهو ما يعني أن العبء الملقى على كاهل الأحزاب الجديدة سيكون ثقيلا، لأن فشلها في التحالف وإيجاد حكومة ناجحة، قد يفضي إلى انتخابات مبكرة، تفقدها كل النتائج الجيدة التي حققتها، والأيام المقبلة ستكون حبلى بالجديد.