العدد 1515 /8-6-2022

لا يكاد يمرّ أسبوع من دون إعلان اتفاق جديد بين المغرب وإسرائيل، أو لقاء بين مسؤولين من البلدين، أو تبادل زيارات من جميع المستويات، وذلك منذ إعلان توقيع اتفاق التطبيع رسمياً بين المغرب والكيان الصهيوني نهاية عام 2020، وخروج العلاقات السرّية بينهما إلى العلن. هذه السرعة الفائقة نحو التطبيع، والتهافت على الإمعان فيه، فاجآ كثيرين، حتى الذين كانوا يعلمون بعلاقات سرية بين حكام الدولتين على مستويات مختلفة منذ قيام دولة إسرائيل. لكن ما يحدث اليوم فاق كل التوقعات، فقد تحوّل الأمر إلى تسونامي خطير، لا يجب الاستهانة بانعكاساته السلبية على الدولة والمجتمع المغربيين، لأن الدولة التي قامت على احتلال أرض شعب واغتصاب حقوقه، لا يمكن الثقة بالتزاماتها واتفاقاتها، فجوهر الفكر الصهيوني الاستعماري القائم على التمييز والكراهية والتآمر، يعتبر كل "الآخر" غير اليهودي عدواً، وخصوصاً إذا كان هذا "الآخر" عربياً أو مسلماً، لأن هذا هو جوهر مبرر وجود هذا الفكر، منذ نظّر له حكماء صهيون.

ومنذ توقيع اتفاق التطبيع قبل سنة ونصف سنة، تسير العلاقات بين الرباط وتل أبيب في منحى تصاعدي، توج بزيارات متبادلة لم تتوقف، وبتوقيع اتفاقيات تعاون ثنائية عديدة في مختلف المجالات بشكل متسارع. وخلال الأسبوعين الماضيين فقط، شهد نشاط التطبيع في المغرب تسارعاً كبيراً، بدأ بإعلان افتتاح أول استوديوهات لقناة صهيونية في المغرب، في سياق التطبيع الإعلامي الذي انطلق، حتى قبل خروج العلاقات السرّية إلى العلن. كذلك وُقِّع قبل أيام اتفاق جديد بين المغرب وإسرائيل في مجال مراقبة وحماية البيانات والمعطيات ذات الطابع الشخصي، مع ما يحمله هذا الاتفاق من مخاطر، لأنه يشمل مجالاً حسّاساً يدخل ضمن الأمن القومي للدول وشعوبها. وأحدث اتفاق مغربي إسرائيلي هو ذلك الذي وُقِّع بين الجامعات ومراكز الأبحاث في البلدين، لربط التواصل بين الطلاب والباحثين. وطبعاً، لن يفيد القول إن كل هذه الاتفاقات تعرّضت للانتقاد والاحتجاج، وأثارت استنكار المناهضين للتطبيع، وهم كثر، لكن الحكومة، في كل مرّة، تعبّر عن احتقارها الرأي العام المغربي، وتمعن في امتهانها كرامة الأغلبية الصامتة من الشعب المغربي وكبريائها، عندما تعبّر على لسان الناطق بها، أو على لسان بعض وزرائها، عن افتخارهم بما يعتبرونه إنجازات مبهرة، في مجال التقارب المغربي الإسرائيلي، للتغطية على عجز حكومتهم، بل وفشلها في تحقيق ظروف عيش كريمة للمواطن المغربي الذي يئنّ تحت وطأة ارتفاع الأسعار وقهر السلطة التي تمنعه حتى من حق الخروج للتظاهر للتنفيس عن غضبه!

لقد تحوّل التطبيع في المغرب إلى رياضة رسمية مستفزّة، تتحدّى مشاعر الأغلبية الصامتة من أبناء الشعب المغربي وبناته المغلوبين على أمرهم، فالمعروف في المغرب أن قرار التطبيع فُرض بقرار فوقي من القصر، وحتى حزب العدالة والتنمية الذي وقّع أمينه العام السابق، سعد الدين العثماني، بصفته رئيساً للحكومة، اتفاقيته المشؤومة، أصبح اليوم من أكثر المعارضين له، خصوصاً بعد السقوط المدوّي للحزب في انتخابات سبتمبر/ أيلول 2021. ويعزو مراقبون، بدرجة أساسية، فقدان الحزب كثيراً من أصوات المتعاطفين معه إلى توقيع أمينه العام السابق هذه الاتفاقية، ودفاعه عنها وتبريره توقيعها، رغم أنه كشف، بعد خروجه من الحكومة وإزاحته من الأمانة العامة للحزب، عن معارضته التطبيع!

أما ما يرافق توقيع اتفاقات التطبيع مع إسرائيل من تبريراتٍ وتصريحاتٍ صادرة عن كبار المسؤولين المغاربة الرسميين، تؤكد حرصهم على صون حقوق الفلسطينيين وحفظها، وقدرة التقارب مع إسرائيل من تمكين المغرب من لعب دور إيجابي في إحلال السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فقد كشفت أحداثٌ عديدة عن صمت مغربي رسمي مريب، إزاء أعمال إجرامية عديدة ارتكبها الاحتلال الصهيوني ضد الفلسطينيين وحقوقهم فوق أرضهم، ودانها واحتجّ عليها حتى أقرب حلفائهم، وبات الصمت المغربي الرسمي المريب تجاه اغتيال الشهيدة شيرين أبو عاقلة، والتنكيل اليومي بالفلسطينيات والفلسطينيين العزّل الأبرياء، وتدنيس قطعان المستوطنين المتطرّفين المتكرّر للأماكن المقدسة، والاستيلاء بالقوة على بيوت المقدسيين، والهدم الانتقامي لبيوت أسر المقاومين على رؤوس سكّانها، والتوسّع الاستيطاني السرطاني الذي لم يتوقف، يثير أسئلة كثيرة عن علاقة هذا الصمت غير المبرّر بوتيرة تسريع التطبيع الرسمي بين المغرب وإسرائيل، ومن يدفع ثمن هذه العلاقة، ومن يستفيد منها حقاً!

خطورة هذا التطبيع الرسمي، المرفوض شعبياً، والمدان سياسياً وأخلاقياً، تكمن أولاً في أنه يجري مع دولةٍ قامت على ظلم تاريخي للشعب الفلسطيني، واغتصاب مستمر لحقوقه في الوجود والعيش الكريم فوق أرضه التاريخية، وثانياً في أنه يجري مع كيان محتل ومغتصب دستوره، وقوانينه تنصّ صراحة على عنصرية دينية وقومية مقيتة، وتمنح مرجعيتها من إيديولوجيا شوفينية استعمارية استيطانية وتطهيرية. وثالثاً، من كونه أُبرم مع دولةٍ سجلها أسود في مجال احترام الحقوق والحريات، وسمعتها سيئة في التواطؤ مع أنظمةٍ سلطوية وتقديم الحماية لها ضد إرادة مواطنيها، ودعمها على قمع شعوبها، وهو ما يجعل ديمقراطيين مغاربة كثيرين يبدون تخوفهم من تسارع عمليات التطبيع، وتغلغلها في مسامّ الدولة وأجهزتها الحسّاسة، ما سيؤدي إلى تقوية الهاجس الأمني عند صانع القرار المغربي. وفي المقابل، يضعف ويقمع كل قوى المجتمع الحاملة قيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، فكلما تسارعت خطوات التطبيع، تتباطأ وتتعثر خطوات دمقرطة الدولة والمجتمع في المغرب.

ومقابل ما يروج في الإعلام الرسمي وشبه الرسمي المغربي، في تقارير وريبورتاجات دعائية مدعومة رسمياً، أن التطبيع يلقى تجاوباً داخل المجتمع وبين شرائحه الشعبية، تمنع السلطات كل تظاهرة أو فعالية مناهضة له وتقمعها، وهو ما يجعله مفروضاً على الأغلبية الصامتة. ولو سمح للمغاربة بالتعبير بحرية عن رأيهم من التطبيع، لنزلوا بالملايين إلى الشوارع للتنديد به، ورفض كل مظاهره، ويكفي إلقاء نظرة سريعة على تفاعل رواد المواقع الاجتماعية في المغرب مع اتفاقات التطبيع التي تبرمها دولتهم مع الكيان الصهيوني لقياس مزاج الشارع المغربي، الرافض كل أشكال التطبيع. ومهما تعدّدت اتفاقاته وتنوّعت مجالاتها، سيبقى فعلاً مفروضاً رسمياً ومرفوضاً شعبياً.

علي أنوزلا