نبيل البكيري

لا شك أن يوم 15 تموز الماضي، سيمثل نقطة فارقة في تاريخ تركيا الحديث، ستترتب عليها تحولات عميقة في المجتمع التركي من شأنها أن تعيد رسم العلاقة التكاملية القديمة بين ثلاثية هذا الشعب: الدين والمجتمع والدولة.
هذه الثلاثية المترابطة في نسق علاقة تكاملية غاية في الانسجام والتناغم التاريخي، رغم مرحلة الانقطاع الصعبة التي مثلتها المرحلة الكمالية وإرثها الثقيل الذي ظلت تجدده الانقلابات العسكرية على مدى أكثر من سبعين عاماً منذ انقلاب 27 أيار 1960م حتى انقلاب 15 تموز 2016 الفاشل. 
إعادة صياغة هذه المعادلة من جديد لم تتهيأ لها الظروف كما هو الحال الراهن في تركيا ما بعد 15 تموز، بفعل ما أحدثته هذه الهزة الانقلابية من يقظة الوعي التاريخي بأهمية معادلة التكامل بين الدين والدولة والمجتمع في الحالة التركية، وهي المعادلة التي نشأت عليها الأمة التركية منذ لحظة الميلاد وبداية التأسيس، وهي ما مثلت إشكالية كبيرة بالنسبة إلى محيط تركيا الغربي والإقليمي حاول من خلال إلغاء الخلافة أن يتخلص من هذه المعادلة الحضارية التي جعلت من تركيا أمة إمبراطورية ظلت لنحو خمسة قرون في صدارة المشهد العالمي.
يغفل الكثيرون اليوم عن طبيعة التحولات التي يشهدها المجتمع التركي وطبيعة دينامياته الحاكمة، تلك التي تدفع هذا المجتمع نحو العودة إلى جذوره التاريخية لاستعادة هويته ومكانته الطبيعية بين الأمم، هذه الهوية التي بدأ المجتمع التركي بالشعور باستعادتها مع صعود حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى السلطة في عام 2002م وبدأت موجة الشعور بالهوية التركية بالتصاعد تدريجياً مع كل النجاحات والإنجازات الكبيرة التي حققها هذا الحزب لتركيا على كل المستويات حتى اللحظة.
فمن خلال ملاحظاتي للمشهد التركي عشية الانقلاب الفاشل، وتفاعلات ثلاثية المعادلة التركية التاريخية: الدين والمجتمع والدولة، وإفشال هذه المعادلة للحالة الانقلابية التي نفذها فصيل صغير من الجيش التركي الذي مثل مرجعية جديدة غير المرجعيات السابقة للانقلابات العسكرية، وهي المرجعية العلمانية الحاكمة للعقيدة العسكرية لتركيا الكمالية، التي بدأت بالتراجع الكبير مع بروز تيار تركيا الجديدة لصالح مرجعيّة إسلامية كانت ضمن نسق تركيا الجديدة ذات ارتباطات بقوى ومصالح دولية معادية لعودة تركيا كفاعل رسمي في المشهد الدولي.
الدين والتديّن التركي 
يحتل الدين مساحة واسعة من وجدان ومخيال الإنسان التركي، الذي تذهب كثير من كتاباته وأدبياته للقول إن كل تركي مسلم بالضرورة، وإن ورود لفظ تركي يعني أنه مسلم وليس شيئاً آخر، بحسب حديث مع الصديق والباحث التركي محمد زاهد غل، الذي أخبرني أن كاتب النشيد الوطني التركي محمد عاكف أرسوي كان إسلامياً صميماً، وأن المدرسة الإسلامية بتجلياتها الراهنة هي ذات جذور تركية، وأن جدلية الإسلامي وغير الإسلامي بمدلولها السياسي والثقافي هي جدلية تركية في الأساس ابتدأت عند سعيد حليم باشا الذي كان يطلق على نفسه الإسلامي مقابل الاتحاديين.
لكن المختلف في الحالة التركية في ما يتعلق بجدلية الديني والسياسي والإسلامي والعلماني، هو أن الفكرة الإسلامية تتعلق أساساً بالدولة وآليات عملها في المجتمع بمعنى أن الفكرة الإسلامية في الحالة التركية هي أساساً مرتبطة بالدولة ككيان مقدس نابع من تدين المجتمع الذي يعتبر وجود الدولة جزءاً من تديّنه الذي يفرض عليه الإيمان بوجود الدولة الوطنية المتصالحة مع تدين المجتمع، والساهرة على رعاية مصالح أفرادها وتدينهم.
بالمختصر، فالتدين التركي ليس حكراً على طبقة أو جماعة أو فرد دون آخر، ليس محصوراً حتى في تلك الجماعات الصوفية أو التي تقوم بمهمة الوعظ والإرشاد، فالتدين التركي حالة فريدة، فتجد أشد الناس علمانية في الصف الأول من المسجد كما تجد سيدة شبه عارية تذهب إلى المسجد وتصلي.. مجتمع كهذا من الصعب جداً أن تصفه بغير صفة التدين العميق الذي يمارسها كسلوك فردي وليس كإلزام جماعي أو مظهر اجتماعي.
الدولة في المخيال التركي 
مثلت الدولة بالنسبة إلى الأمة التركية واحدة من الركائز الرئيسية المقدسة التي ارتبط مفهوم الأمة التركية بها منذ لحظة الولادة الأولى للدولة التي نشأت منذ دولة السلاجقة الأتراك الأوائل «1038- 1157» ومضت على هذا المنوال مع دولة الخلافة العثمانية «1299-1923»، وتجذرت هذه العلاقة بالارتباط التقليدي بين مفهومي الدولة والأمة والدين كقالب هوية للشعب التركي بمختلف أطيافه ومذاهبه على امتداد تاريخ الأناضول القديم والمعاصر.
فلمفهوم الدولة في التراث التاريخي والديني والثقافي بالنسبة إلى الأتراك، حضور كبير ومهيمن على مساحة واسعة من التفكير والوعي الاجتماعي، باعتبار الدولة حصن الأمة وحاميها من الأعداء، وهذا تفسير طبيعي لحضور مفهوم الدولة لدى الأتراك بهذا الشكل، بالنظر إلى أن الأتراك هم في الأصل قبائل مهاجرة أتت من وسط آسيا بحثاً عن وطن، وهو ما تحقق لها بالوصول والاستقرار في الأناضول التي حولت القبائل التركية من قبائل بدوية تبحث عن الماء والمرعى إلى قبائل متمدنة تستوطن السهول وتمتهن الزراعة والصناعة والرعي معاً.
ويفسر هذا الحضور الطاغي لمفهوم الدولة لدى الأتراك، نضالهم الطويل والكبير تاريخياً بحثاً عن وطن، والواقع أن الوطن لا يمكن الحفاظ عليه دون قيام دولة قوية تحمي شعبها وتدافع عن أراضيه، ومثل هذا التفسير أيضاً هو الذي نجده كثيراً ويتسق مع تفكير الأتراك بمختلف تياراتهم ومسمياتهم ومذاهبهم.
لذا لم تكن الدولة بالنسبة إلى الأتراك وليدة لمرحلة الجمهورية الأتاتوركية المعلنة عام 1923، بقدر ما هي حقيقة تاريخية وتقاليد راسخة ومتجذرة في وعيهم وتراثهم الحضاري الذي امتد لقرون عدة ربما تصل لأكثر من 800 سنة، منها ما يقارب قرنين من الزمن في عهد السلاجقة، وما يقارب ستة قرون في عهد العثمانيين. 
ومن ثم فالجمهورية التي تعد ثابتاً من ثوابت تركيا الحديثة، تمثل أيضاً مرحلة تواصل تاريخي لفكرة الدولة ومفهومها وتقاليدها وحضورها في حياة الناس والأجيال المتعاقبة، كقيمة وطنية مقدسة لا يمكن أن يتخيل الأتراك وجودهم بدونها، وهذا ما نلاحظه من خلال الصراع السياسي على مدى عقود ما بعد الجمهورية التي كانت تدور كلها حول آليات عمل الدولة الحاكمة وأيديولوجيتها، وليست حول الدولة وجوهر وجودها ككيان اعتباري لحماية الأمة والشعب التركي.
من كل هذا، يصبح مفهوماً أيضاً التقديس الكبير للعلم (البيرق) بالتركية رمز الدولة وشرفها كما يعكسه البيت الأول من النشيد الوطني لمحمد عاكف أرسوي «لا تخف أن تنطفي هذه الراية الحمراء في السماء».
هذه الراية التي ترمز للدولة التركية، والتي لم أر شعباً كالأتراك تقديساً لعلمهم الوطني، فهم قد يختلفون حول كل شيء إلا الدولة والبيرق، فهما ثابتان من ثوابتهم المقدسة، لدرجة أن أكبر شخصية دينية في الدولة (وزير الشؤون الدينية) يقف داعياً الله في مهرجان جماهيري مليوني قائلاً: «اللهم لا تجعلنا بلا دولة ولا علم» في كناية عن قداسة فكرة الدولة وحضورها في الذهنية والمخيال التركي، وارتباط الدولة والدين وتكاملهما معاً كركيزتين أساسيتين في الاجتماع السياسي التركي تاريخياً.