العدد 1689 /12-11-2025
بدر العقباني
عندما دخل الجنرال البريطاني إدموند ألنبي القدس
في 11 ديسمبر/كانون الأول من عام 1917 كان يعتقد أنه يحرر المدينة من الاستبداد
العثماني، لكنه كان يضع حجر الأساس لأكثر مشاريع الاستعمار وحشية في القرن
العشرين: تحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود على أنقاض شعبها. اليوم، بعد أكثر من
قرن، لم تتغير المعادلة، فما زالت التحالفات الاستعمارية قائمة، وآلة الحرب هي
نفسها، وكذلك السياسات التي ترتكز على نهب الثروات وتدمير المقاومة.
الفيلم الوثائقي To Kill a
War Machine، يكشف كيف لا تزال الشركات البريطانية تمول آلة القتل
الإسرائيلية، وكيف يعيد التاريخ نفسه بأبشع الصور. يبرز هذا الوثائقي صوتاً
للمقاومة الشعبية وسجلاً سينمائياً جريئاً يوثق كفاح مجموعة بالستاين أكشن (Palestine Action) ضد صناعة الأسلحة البريطانية الإسرائيلية. هذا الفيلم الوثائقي،
من إخراج حنّان مجيد (Hannan Majid)
وريتشارد يورك (Richard York)،
تحول إلى رمز للمقاومة السينمائية، وتحدٍ للقمع الحكومي، خاصة بعد قرار الحكومة
البريطانية حظر مجموعة بالستاين أكشن بموجب قوانين مكافحة الإرهاب في يوليو/تموز
2025، ما هدد بتحويل عرض الفيلم نفسه إلى جريمة يعاقب عليها القانون.
حنّان مجيد (بريطاني من أصل بنغالي) وريتشارد يورك
ليسا غريبين عن عالم السينما الوثائقية ذات الرسالة الاجتماعية. يعمل الثنائي معاً
منذ عام 2006 عبر شركتهما للإنتاج Rainbow Collective،
متخصصين في إنتاج أفلام تسلط الضوء على قضايا حقوق الإنسان والطفل. خلال مسيرتهما
التي تمتد لعقدين، أنتجا أفلاماً في جنوب أفريقيا وبنغلادش والعراق والمملكة
المتحدة، وتعاونا مع منظمات مثل منظمة العفو الدولية، اشتهر الثنائي بفيلم Tears in the Fabric الصادر عام 2014، إذ يركز على عائلة واحدة في أعقاب انهيار مبنى
سافار في بنغلادش.
يعتمد To Kill a War Machineعلى لقطات حيّة من كاميرات الجسم والهواتف المحمولة للناشطين، ما يمنح المشاهدين
تجربة غامرة وكأنهم جزء من الغارات الجريئة على مصانع الأسلحة في جميع أنحاء
المملكة المتحدة. منذ عام 2020، وثقت مجموعة بالستاين أكشن عملياتها، بهدف تفكيك
الشركات والبنية التحتية التي تزود إسرائيل بالسلاح المستخدم في حرب الإبادة على
قطاع غزة والضفة، وأي مكان في العالم العربي تشعر إسرائيل منه بالقلق. يقدم
الوثائقي لقطات صادمة تظهر الناشطين وهم يحطمون زجاج المصانع ويتسلقون الأسوار
ويغطون المعدات بالطلاء الأحمر، متحدين بذلك الأنظمة الأمنية للوصول إلى قلب آلة
الحرب البريطانية الإسرائيلية. هذه اللقطات المباشرة تخلق إحساساً بالإلحاح
والمخاطرة، وتجعل منّا شهوداً على المقاومة المباشرة.
لا يقتصر الفيلم على اللقطات الحيّة، بل يمزجها
بمقابلات مع ناشطين وأعضاء ومؤيدين للمجموعة، مثل هدى عموري وريتشارد بارنارد،
المؤسسين المشاركين للمجموعة. هذه المقابلات تضيف بعداً إنسانياً للحركة
وللوثائقي، مقدمةً بذلك الناشطين بوصفهم مخربين مشاركين وأفراداً مرتبطين
بالمخاطرة المشتركة والتنظيم والمقاومة. يتحدث الناشطون بوضوح عن دوافعهم، مُبررين
أفعالهم بأنّها ضرورة أخلاقية وقانونية لوقف تصنيع الأسلحة المستخدمة ضد الأطفال
والمدنيين في قطاع غزة. يبرز To Kill a War Machineأصواتاً أخرى، مثل سوكاينا راجواني، والدة فاطمة (إحدى المعتقلات في قضية فلتن 18)
ما يضيف أبعاداً عاطفية وسياقاً عائلياً واجتماعياً للنضال.
يتميز الفيلم بأسلوب بصري حركي يحوي كثيراً من
القطع، المألوفة لأولئك الذين شاهدوا أفلاماً من إنتاج حركات المقاومة من قبل.
يقفز المونتاج بسرعة بين لقطات الناشطين وهم يحطمون النوافذ والأسطح وبين مقابلات
وإعلانات شركة Elbit التي
تتباهى بفعالية أسلحتها ودقتها، وبعض اللقطات المشوشة ولكنها مروعة للضحايا من
الأطفال بسبب هذه الأسلحة دقيقة التصويب.
اللافت أن الفيلم يبدأ بأغنية الراب "إن
أن" لشب جديد وضبور، ويحتوي على العديد من أغاني الراب خلاله. هذه الاختيارات
الموسيقية تعكس ثقافة الاحتجاج المعاصرة وربط النضال الفلسطيني بأشكال المقاومة
الثقافيّة العالميّة. الموسيقى في الفيلم تعيد تقديم أعمال سابقة لفنانين من
مخيمات الفلسطينية وفنانين بريطانيين، مثل لووكي وشادية منصور، لتضيف قوة هائلة
للسرد.
يدرك الناشطون في مجموعة بالستاين أكشن أن الضرر
الإعلامي في المراحل الأولى من المقاومة قد يكون أهم من الضرر المادي. الفيلم نفسه
هو دليل على هذه الاستراتيجية، إذ يحول أفعال المجموعة إلى سردية قوية تُعرض على
الجماهير العالمية، ما يسبب إحراجاً كبيراً للحكومة البريطانية وشركات الأسلحة.
يربط To Kill a War Machine بذكاء
بين عمل بالستاين أكشن وتاريخ أوسع للمقاومة المباشرة في بريطانيا، مثل حركات حقوق
الحيوان في التسعينيات والألفية، مثل الحملة ضد Huntingdon
Life Sciences، التي استخدمت تكتيكات مماثلة Go Down the
Chain, Find the Weak Points (لنستهدف أضعف حلقة في السلسلة) هذا يوضح أن حركات المقاومة لها
تاريخها وسياقها وتراكمها، وليست مجرد ردات فعل عفوية.
إذا كانت غزة والضفة مختبراً للأسلحة، فإن إسرائيل
دفيئة لكل ما هو متطرف في الغرب. يعمل الوثائقي على إيضاح وشرح الفكرة السابقة،
كيف أن الشركات البريطانية تدعم الحرب الإسرائيلية، ليس على فلسطين فحسب، ولكن على
لبنان ودول أخرى أيضاً. هنا، يصبح اختراق هذه الشركات في بريطانيا عادة ضرورية
لمقاطعة آلة الحرب العالمية التي سترتد إلى الغرب يوماً ما كما حدث في زمن
النازيّة.
واحدة من أكثر اللحظات قوة في العمل هي عندما نسمع
صوت الدرونز التي تصم آذان فلسطينيي غزة، ثم نراها في مصنعها الأول في بريطانيا
قبل أن تُشحن إلى إسرائيل. هذه اللحظة السينمائية البارعة تربط مباشرةً بين الفعل
في بريطانيا والمعاناة في غزة، ما يحطم حاجز المسافة والتجريد. يرفض الوثائقي، مثل
الناشطين الذين يتحدث عنهم، أن يُسكته أحد. إنه يشهد بلسان أبطاله على أن العدالة
الاجتماعية مهددة في بريطانيا نفسها، إذ إن تعميم المشروع الإسرائيلي وقوانينه
وأخلاقياته سيضر بالجميع وبالأجيال المقبلة. To Kill a War
Machine يثبت أن الكاميرا يمكن أن تكون سلاحاً قوياً مثل المطرقة التي
تحطم بها النوافذ، وأن الحقيقة بمجرد تحريرها، من الصعب جداً قتلها.