عبد الحكيم هلال

مثّل إعلان يوم 11 أيار الماضي بتشكيل «مجلس انتقالي جنوبي» مكون من 26 عضواً «لإدارة وتمثيل الجنوب داخلياً وخارجياً»، ما يمكن وصفه بأنه منعطف جديد في مسار الأحداث باليمن. فما كان لتشكيل هذا الكيان أن يعني الكثير لولا أنه جاء في مثل هذا التوقيت الحساس أولاً؛ والطريقة والملابسات التي أفضت إلى إعلانه ثانياً؛ وما يحيط به من شكوك ومخاوف ثالثاً.
محورية الجنوب
دخل اليمن في أتون الحرب إثر انقلاب مليشيات الحوثي والرئيس المخلوع علي صالح على السلطة الشرعية مطلع 2015، الذي على إثره تدخل التحالف العربي بقيادة السعودية لإعادة السلطة الشرعية، بطلب من الرئيس اليمني عبده ربه منصور هادي.
وفي شباط 2015، عاد هادي إلى مدينة عدن لتكتسب هذه المدينة رمزية سياسية لدى النظام والسلطة الشرعية بعد إعلانها عاصمة مؤقتة للبلاد، في موازاة صنعاء العاصمة الرسمية لليمن التي أصبحت تحت سيطرة المليشيات.
وفي 19 آذار 2015، اجتاحت مليشيات الحوثي وصالح محافظات جنوب اليمن: الضالع، شبوة، لحج، عدن، وأبين. وفي 26 من الشهر نفسه تدخل التحالف العربي في الحرب، وبعد خمسة أشهر من المعارك تم تحرير مدينة عدن وبقية المدن الجنوبية الأخرى.
بعد تحريرها، تضاعفت الرمزية السياسية لعدن لأنها أصبحت مقراً رئيسياً لقيادة قوات التحالف الميدانية في اليمن (بمثابة غرفة عمليات متقدمة في المعركة). وفي خضم استمرار الحرب تحت قيادة التحالف العربي، وبعد عامين من تحرير المحافظات الجنوبية واقتراب المعارك من مراحلها قبل النهائية؛ يفاجأ الجميع بظهور مجموعة ممن كانوا في قلب الجهاز الحكومي التابع للشرعية، وتحت رعاية ودعم التحالف العربي، لتعلن تشكيل «مجلس انتقالي جنوبي»، لإدارة وترتيب عملية انفصال جنوب البلاد المتحرر عن شماله العالق في الحرب؟!
إن حدوث ذلك كان من شأنه أن يعكس عدداً من الإشارات السلبية والمخاوف والشكوك، لعل أبرزها:
- في حال مضت إجراءات الانفصال نحو التصعيد وحظيت بدعم خارجي، فإن هذا بالضرورة سيُحدث انعطافة تاريخية في مسار الأحداث القائمة، بما قد يضر بالمعركة الكلية لتحرير اليمن من المليشيات الانقلابية المدعومة من إيران!
- أن هذا التصعيد -في مثل هذا التوقيت- لا يمكنه أن يخدم سوى المليشيات المنقلبة على السلطة الشرعية، التي سيسعدها هذا الانحراف عن مسار المعركة الكلية، لأنه سيصب في مصلحتها من الناحيتين السياسية والعسكرية.
 - فشل النموذج المثالي لمدينة عدن التي تحولت إلى مركز لإدارة وقيادة عملية الانفصال، ليس فقط تحت سمع وبصر التحالف بل أيضاً تحت دعم وإسناد إحدى دوله المؤثرة. وذلك في وقت كان فيه الجميع ينظر إليها كمقر لإدارة عمليات تحرير كامل اليمن وليس جنوبه فقط!!
التورّط الإماراتي
منذ تدخله في الحرب اليمنية، ظل التحالف العربي يؤكد أن مشاركته تهدف إلى إعادة الشرعية في اليمن كهدف رئيسي له، دون المساس بوحدة أراضي اليمن واستقلاله.
وعلى مدى الفترة الماضية من الحرب، ظل مجلس التعاون الخليجي -سواء عبر بياناته أو عبر تصريحات مسؤوليه وقياداته الصادرة بين الحين والآخر- يشدد على عدم التفريط في وحدة اليمن وأمنه واستقراره.
وقدمت مخرجات الحوار الوطني حلاً توافقياً للقضية الجنوبية تنأى بها عن اتخاذ مثل هذا السلوك الانفصالي المطلق، فيما شددت قرارات مجلس الأمن على الالتزام بالوحدة الوطنية لليمن.
على أن صدور هذا الإعلان التصعيدي (المجلس الانتقالي الجنوبي) من شخصيات مدعومة من دول شريكة ومؤثرة في التحالف العربي، كان من شأنه أن يشكك في النوايا الحقيقية لمشاركة التحالف في هذه الحرب.
وإذا ما تتبعنا مثلاً الاستجابة التي جاءت من الرئيس المخلوع علي صالح -خلال خطابه في 21 أيار الماضي بمناسبة الذكرى الـ27 لإعلان الوحدة اليمنية- فلربما يمكن الحصول على مؤشر يوصلنا إلى معرفة بعض الحقائق.   
فصالح، الذي كان يعتبر نفسه الأب الروحي للوحدة اليمنية- دعا أخيراً إلى إمكانية إجراء استفتاء شعبي على وحدة البلاد. وهو ما يمكن قراءته -في ظل مواكبته لإعلان تشكيل المجلس الانتقالي الجنوبي- بوصفه مؤشراً على أن ثمة تحولاً في موقفه السابق المتشدد من هذه القضية!!
 وبالربط بين هذا المؤشر وعلاقة أبو ظبي مع صالح ونجله أحمد الموجود في الإمارات، وكذا علاقتها الوطيدة بقيادات الحراك الجنوبي الذين أعلنوا تشكيل المجلس الانتقالي، قد يمكن تأكيد أن لدى أبو ظبي أهدافها الخاصة من انغماسها في هذه المعركة.
ولتعزيز هذا الربط أكثر دعونا نستعرض هذه الحقائق والمؤشرات:
- أبدى مسؤولون إماراتيون موقفاً واضحاً من رفض قرارات هادي الأخيرة بإقالة محافظ عدن السابق عيدروس الزبيدي، ووزير الدولة المقال هاني بن بريك، وهما من تبنّيا إعلان المجلس الانتقالي عقب إقالتهما مباشرة.
- تضمنت تلك المواقف والتصريحات دفاعاً قوياً عن المجلس الانتقالي الجنوبي المُعلن، وحق الجنوبيين في تقرير مصيرهم.
- بعد أيام من استجابة صالح ودعوته للاستفتاء حول وحدة البلاد، تم تناقل تصريحات لوزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش، جاء فيها تأكيده أن حرب التحالف في اليمن حققت أهدافها، وأنه تم الحديث مع الأميركيين بشأن عودة أحمد علي (نجل المخلوع صالح) لممارسة دور في شمال اليمن!
- تعزز هذه التصريحات تسريبات متداولة تفيد بأن الإمارات ظلت طوال فترة الحرب تحاول إقناع السعودية بقبول وجود دور مهم لأحمد علي في اليمن.
- مؤخراً ظهرت مؤشرات على وجود تحوّل ما في موقف معسكر الرئيس صالح من تحالفه المتين مع مليشيات الحوثي، حيث بدأت بعض الخلافات تبرز بقوة بين الطرفين عبر الإعلام، كما نظم أتباع حزب صالح ندوة في صنعاء ضد التدخلات الإيرانية باليمن.
مما سبق؛ يمكن  قراءة هذا المستجدات والتحولات في إطار وجود توجه إماراتي مدروس بإنهاء الحالة اليمنية عند هذه المرحلة، كخطوة لإقرار واقع الحرب الذي فصل شطريْ البلدين: جنوب محرر وآمن يعلن انفصاله عن الشمال؛ وشمال لا يزال مطحوناً بالحرب ويجب أن يسلم لقوة جديدة قادرة على الحسم وضبط تفاصيله المستقبلية.   
من المستفيد؟
يبقى السؤال الجوهري هنا هو: لماذا تمضي الإمارات في هذه اللعبة الخطرة؟ ومن المستفيد ومن المتضرر من نتائجها؟
بالنسبة إلى الإمارات ذات التدخل الواضح والمؤثر في هذا الملف، لا توجد لديها أية مخاوف جيوسياسية من إيصال الجنوب إلى الانفصال. بل على العكس، فهي حالياً تسيطر شبه كلياً على الوضع في الجنوب، وبالتالي ليس هناك ما هو أفضل لها من دولة جنوبية مستقلة تنشأ بدعمها ورعايتها وإدارتها. فضلاً عن أن ثمة حقيقتين متداولتين على نطاق واسع -ضمن تحليلات دولية ومحلية- تفيدان بسعيها من وراء ذلك لتحقيق هدفين:
- الهدف الأول اقتصادي، ويتمثل في محاولة السيطرة الإدارية على ميناء عدن والمنطقة الحرة الواعدة في هذه المدينة، وهو ما سيعطيها أفضلية ويمنع الإضرار بالحركة التجارية للمنطقة الحرة في دبي. 
- الهدف الثاني سياسي، ويتمثل في مواصلة حربها الدولية ضد التيارات الإسلامية. فمن خلال سيطرتها على الجنوب؛ تمكنت أبو ظبي من إنشاء جهاز أمني خاص يطلق عليه «الحزام الأمني»، وهو أشبه بشركة أمن خاصة تعمل خارج نطاق السلطات والأجهزة الشرعية اليمنية.
وتعتبر السلطات الإماراتية كل الشمال مركباً من ثلاثة تيارات رئيسية، هي: الحوثيون الشيعة المدعومون من إيران وحزب التجمع اليمني للإصلاح (إسلامي) في المرتبة الثانية؛ وحزب المؤتمر الشعبي العام التابع للمخلوع صالح في المرتبة الثالثة.
وبالتالي، أدركت أبو ظبي صعوبة السيطرة على الشمال وتحويله إلى مقاطعة تابعة لها كالجنوب، فلم يكن أمامها سوى العمل مع حزب الرئيس المخلوع كحليف تعتقد أنها يمكن عبره التحكم مستقبلاً في الشطر الشمالي بعد الانفصال. وتؤكد معظم التحليلات أن السعودية ستكون المتضرر الأكبر من انفصال جنوب اليمن الذي يمثل ثلثيْ مساحة اليمن الموحّد، ويعيش فيه ربع عدد السكان الحالي، ويضم 70% من الثروات الطبيعية لمجموع البلاد.
كما أن ترك الحرب معلقة على ماهي عليه الآن سيشكل عبئاً إضافياً على السعودية، فضلاً عن المخاطر التي ستتضاعف جراء الإبقاء على مليشيات الحوثي بقدراتها الراهنة، كقوة ضاربة ومقلقة بيد عدوتها التاريخية إيران.
وفي هذه الأثناء، دعونا ندقق قليلاً في الأطراف الدولية والمحلية الداعمة للانفصال. وهنا سنجد أن إيران ستؤيده لأنها تدعم علناً علي سالم البيض (نائب الرئيس اليمني سابقاً) الذي ثبت دعمه لعيدروس الزبيدي (محافظ عدن المقال مؤخراً) منذ 2010، حين كان الأخير يترأس حركة «حق تقرير المصير» (حتم) التي بدأت نشاطها منذ 1996، وأرسل عدداً من مجنديه لتلقي التدريب في جنوب لبنان.
الحوثيون أيضاً طالبوا بتقسيم اليمن إلى إقليمين فقط (شمالي وجنوبي) رافضين فكرة الأقاليم الستة!! وتبني الإمارات لهذا التوجه، وتغيّر موقف الرئيس المخلوع صالح نحو هذا الجانب يجعلنا نتساءل: ألا يثير هذا التوافق بين الأصدقاء والأعداء قلقاً حقيقياً يجب الوقوف أمامه بحذر شديد؟}