العدد 1420 / 8-7-2020
وائل قنديل

منذ وصول دونالد ترامب إلى رئاسة أميركا، لم يستقبل الكيان الصهيوني في أي وقت مثل هذا الحشد الهائل من قوافل الهرولة العربية، الرسمية والشعبية برضا رسمي، إذ وقف العقل الصهيوني مذهولًا من هذا الفيض من الوقاحة التطبيعية، بالتزامن مع إجراءاتٍ عمليةٍ لالتهام ما تبقى من أراضٍ فلسطينية.

قبل إعلان ترامب نقل سفارة بلاده إلي الجانب الشرقي من القدس المحتلة، ومع الإعلان وبعده، وأيضًا مع إقدام سلطات الاحتلال على اتخاذ إجراءات إضافية على طريق التهويد والاستيطان، كانت الزيارات العربية للقدس المحتلة تشهد انتعاشًا غير مسبوق، وخصوصًا من عواصم عربية لم يكن أحد يتوقع أن تكون معنيةً بموضوع التطبيع.

الشاهد هنا أنه كلما ارتفعت وتيرة التطبيع من طرف العرب، تصاعدت إجراءات التهويد والتوسع من طرف الاحتلال الصهيوني، الأمر الذي ينسف مجدّدًا تلك التماحيك التطبيعية التي لا تكفّ عن الإعلان عن نفسها بادّعاء أن امتناع العرب عن زيارة القدس والأقصى يفيد الاحتلال ويضرّ بفلسطين، كما يستأنف محمد البرادعي نشاطه في هذا الصدد أخيرا، فيغرد قائلًا "فلسطين: بدلا من تشجيع زيارة القدس تاكيدا لعروبتها وتوثيقا لأهميتها للمسلمين والمسيحيين ودعمًا لأهلها نمنع الزيارة لها لعقود حتى لا "نطبع" (ظاهريا وليس واقعيًا!) والنتيجة أن إسرائيل بتواطؤ أمريكي ضمتها إلى أراضيها وأعلنتها عاصمة لها دون رد فعل من جانبنا! نحتاج لرؤية أعمق وأصدق. لا يكتفي البرادعي بذلك، بل يريد منا أن نمدّ جسور التعاون والحوار مع إسرائيليين ممن يصفهم "المناصرين لحل الدولتين في إسرائيل لنكسبهم في صفنا"، قبل أن يضيف في نصف التغريدة الثاني ما يُشعل به النار في نصفها الأول وينسفه، حين يتساءل ببراءةٍ ليست بريئة تمامًا "هل فكرنا في إعادة طرح حل الدولة الواحدة وهو ما تخشاه اسرائيل؟ الوقت لم يعد يحتمل الشعارات الخاوية".

مرة مع حل الدولتين ومرة مع طرح حل الدولة الواحدة، في جملةٍ واحدةٍ. هكذا يمضي متلعثمًا مرتبكًا متناقضًا، بما يشي بأن المستهدف هو أن يكون هناك تواصل مع الإسرائيليين والسلام، سواء من ذوي حل الدولتين أو من غلاة الدولة الواحدة اليهودية. وأظن أنه لا يوجد معنى أوضح من ذلك للتطبيع مع المحتل الصهيوني، والذي يتمحور منذ قفزة السادات إلى الكنيست حول نقطتين أكل عليهما الدهر وشرب، ثم جلس يضحك على تهافتهما: الأولى التعلق بوهم أن هناك محتلًا إسرائيليًا طيبًا يجب التعاون معه ضد إسرائيل.. والثانية أن نزور القدس والمقدسات، حتى لا يبتلعها الاحتلال وينفرد بالشعب الفلسطيني.

بالنسبة للنقطة الثانية، فقد قدم الشعب الفلسطني إجاباته الصريحة بشأنها، حين رفع أطفاله البواسل أحذيتهم في وجه وفد المتصهينين العرب، القادمين من السعودية ودول أخرى، للتجول في شوارع القدس المحتلة، في شهر حزيران من العام الماضي، وهي الإجابة ذاتها التي رأيناها مع وزير الخارجية المصري، أحمد ماهر، قبل 17 عامًا، كما يعرفها سعد الدين إبراهيم، وعرفها المسرحي المصري علي سالم، وغيرهما ممن احترفوا ترويج وهم النقطة الأولى المتعلقة بالتحاور والتنسيق والتعاون مع أصوات من الاحتلال الصهيوني.

القصد هنا أن الشعب الفلسطيني لم يطلب من أحدٍ أن يزور القدس مدعوًا ومحميًا من الاحتلال الصهيوني، يستوي في ذلك الطفل الذي يحفظ أبجدية الكفاح من أجل التحرير والشيخ المدافع عن الأقصى والسياسي النزيه الذي يعرف أن كل خطوةٍ عربيةٍ على طريق التطبيع هي مكسب للاحتلال.

والأهم من ذلك كله، كما قدمت، أن كثرة الزيارات لم تعطل الاستيطان والتهويد، وبالتالي لن تفعل شيئًا أمام إقدام إسرائيل مدعومةً بموقف أميركي لا يقل تصهينًا على ضم أجزاء جديدة من الضفة الغربية، في طريقها نحو إعلان الدولة اليهودية الصريحة.

يقول محمد البرادعي أيضًا ساخرًا من العجز العربي "الإسرائيليون والفلسطينيون ينتفضون ضد ضم الأراضي الفلسطينية وسياسة التفرقة العنصرية الجديدة؛ أما في منطقتنا فصمت القبور". وهذه جملة أخرى مخادعة ومراوغة، وفي ظني هي الأخطر، إذ تقفز على كل الحقائق والوقائع على الأرض وتذهب إلى تسويق فرضية أن بالإمكان أن يتشارك الجاني والضحية في انتفاضة واحدة، من أجل فلسطين، متجاهلًا أن كل إسرائيلي محتل هو جندي محارب من أجل قضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، وإن رضي ببقاء الإنسان الفلسطيني في وطنه فهو ذلك الفلسطيني المطيع الذي لا يقاوم ولا يكافح من أجل تحرير أرضه، بل يرضى بالعيش فقط على هامش الدولة اليهودية الصهيونية الواحدة.

يبقى كذلك أن لدينا فتاوى من أربعة شيوخ للأزهر الشريف، ومعهم وقبلهم قرار للبطريرك السابق الأنبا شنودة، بتجريم زيارة القدس تحت الاحتلال. أعلنوها صريحة في ظروف مشابهة، واستقبلها الشارع العربي بالقبول والتأييد. وبالتالي، يبدو مدهشًا هذا الإصرار العجيب على تسويق المنتج القديم ذاته في عبواتٍ جديدة وكأنه إنتاج جديد.

كنا نتمنى واحد على الألف من الانفتاح على الحوار مع الآخر في لحظة حالكة السواد مرّت بمصر في مثل هذا اليوم منذ سبع سنوات، كانت كفيلةً بالحيلولة دون سقوط مصر في يد من يرون أن بقاءهم في السلطة مرهونُ برضا المحتلة الصهيوني.

كنا نتمنى أن يكون البرادعي منفتحًا على الحوار مع المصريين بنصف الحماس الذي يدعو به إلى الحوار مع صهاينة محتلين، بل ويجلس سعيدًا يتبادل القفشات مع مجرم الحرب إيهود باراك، وهو الذي رفض الجلوس في حوار مع رئيس جمهورية منتخب بإرادة شعبية اسمه الشهيد محمد مرسي.