عبد الحميد جماهيري

خرج التجمع السياسي المحيط بالرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، فائزاً في الانتخابات التشريعية في 4 أيار الجاري، فحصلت جبهة التحرير الجزائرية والتجمع الديمقراطي الوطني، بقيادة أحمد أويحيى المقرّب من الرئيس، على أغلبية المجلس الشعبي (البرلمان). واتضح أن الجزائر تفضل الحفاظ على الوضع القائم، استقراراً كان بالنسبة إلى المنتصرين للنظام، أو جموداً بالنسبة إلى أغلب المتابعين للوضعية الجزائرية.  
لم تكن رهانات التشريعيات تتجاوز عتبة الشرعية، والمقصود بها تحديداً نسبة المشاركة (42.9%)، وكان من المنتظر أن تسعى الطبقة السياسية إلى أن تستفيد من بعض مقومات النجاح السياسي، في تقوية الترابط بين الناخبين الجزائريين ولحظة تشريعية متميزة. ومن هذه النقطة التي اعتبرها عديدون نقطة قوة، لم تستغل الجزائر تحول الإسلاميين، ومنهم من تابع الوئام الوطني والمصالحة، من معارضين إلى مؤسساتيين islamistes institutionnels))، وطغت الثقافة الأصلية التي تجعل من كل ما هو خارج مربع السلطة القائمة نقطة ضعف! 
كما أن البلاد لم تستفد مما تراكم في محيط المؤسسات، من أدوار جديدة للبرلمان، بما جاء به دستور 2016، فقد كان لافتاً أن التحليلات كلها انصبت على نسبة المقاطعة، باعتبارها «عجزاً في الثقة» بين المجتمع والطبقة السياسية ونظام الحكم. ولهذا أسبابه الهيكلية، ومنها أن تشريعيات الجزائر كانت انتخاباتٍ بلا موازين قوة، أي أن هذه الموازين يجب البحث عنها عند الرئاسة ومحيطها، والأجهزة الاستخباراتية والجيش والأمن الوطني والمسؤولين الكبار في مؤسسات البترول والصناعات الكبرى.. وليس في السيادة الشعبية، ممثلة في التنافس الانتخابي. 
 كما أن الحديث عن الأحزاب السياسية، بعد تجربةٍ مريرةٍ من الحلول العنيفة لمسار الانتقال المجهض، هو بمثابة محاولةٍ لبناء قصورٍ من الورق، فالحزبان الرئيسيان يتوزّعان الأدوار، وهما معاً من صلب الدولة القديمة، مشخصةً في جبهة التحرير ودولة الوفاق الوطني مع التجمع بقيادة بن يحيى. 
وقد يكون مشهد الرئيس المعتل والعاجز على كرسي متحرّك، قد ساهم، في إعلان وفاة السياسة وجدوى الاقتراع، غير أن العمق السياسي يوضح أن الجزائر أخطأت موعداً حقيقياً للتقدم على طريق الانتقال السياسي وتدبير مرحلة ما بعد بوتفليقة، دون مخاوف كثيرة. ويتضح من حوليات سياستها أنها مرت بموعدين اثنين قبل هذا اليوم، لا شك في أنهما أثّراً على ما بعدهما. 
- أولاً، كل الانتقالات السياسية، في أوروبا الشرقية وفي أفريقيا وفي أميركا اللاتينية، التي أعقبت سقوط جدار برلين، تركت بصماتٍ واضحة في المنطقة. استفاد المغرب مثلاً من التحولات في إحداث انفراج داخلي كبير، فتح المجال نحو مصالحاتٍ كثيرة ومتعدّدة، لعل أهمها المصالحة السياسية، من خلال التصويت على دستور 1996، ثم فتح انتهاكات الماضي، وتسريع وتيرة العدالة الانتقالية. 
هذه الأحداث، وجدت الجزائر فيها تعبيرات  تشرين الأول 1988 في عهد الشاذلي بن جديد، التي أدت إلى التعدديّة، وتراجع قبضة الحزب الوحيد.. إلخ. أعقب ذلك انفتاح سياسي واسع، أدى إلى فوز جبهة الإنقاذ الجزائرية، بقيادة عباسي مدني، غير أن الانتقال وقتها سرعان ما تحول إلى مواجهةٍ دمويةٍ دامت عشر سنوات من الحرب الأهلية، وسقوط المئات من القتلى، واختطاف قرابة مائة ألف شخص. وكان الربيع الجزائري أول امتحان للإسلام السياسي في دائرة السلطة أو الحكم قبل الربيع العربي العام. وكانت المفارقة أن التجديد الذي حدث في العالم، وقاد الديمقراطيين إلى الحكم في قارّاتٍ عديدة، وسمح بمؤتمراتٍ وندواتٍ وطنيةٍ للخروج من نظام الحرب الباردة وحكم العسكر والأحزاب الوحيدة، قاد إلى وصول الإسلاميين إلى صدارة الاقتراع في الجزائر. 
ثانياً، انتقالات 2011، التي تسارعت بعد أحداث الربيع العربي وتساقط عدد من الأنظمة، التي أدت إلى رفع مطالب التغيير عالية، وجدت الجزائر تعالج صدمتها الكبرى من الانتقال الأول، المجهض. ولذلك كانت الأحزاب باردةً للغاية في التعامل مع الوضع الجديد. 
وفي اللحظتين، لم تعط البلاد للسياسة معنىً في ديمومة التحول، بل باعتبارها تدبيراً لا يغامر بأي انفتاح. وفي اللحظتين، كان اللجوء إلى الرئيس الغائب الحاضر، عبد العزيز بوتفليقة، ثم إلى الرئيس الحاضر الغائب نفسه، بوتفليقة، عقدة الوجود في نظامٍ يرتبك في الانتقال إلى تجربة أوسع في الحكم.}