عارف العبيد

بعد تفكك الاتحاد السوفياتي؛ تحوّل النظام الدولي من ثنائي الأقطاب إلى أُحادي القطب، وأصبحت الولايات المتحدة في صدارة القوى العظمى دون منافس، وتعزز هذا الدور الأميركي بعد هجمات 11 أيلول 2001، فأصبحت مسألة الحرب على الإرهاب أولوية بعد انهيار «خطر» الشيوعية العالمية، فكانت غزوات أفغانستان والعراق من نتائج تلك الأولويات.
لكن الدور «المطلق» الذي رسمه الرئيس جورج بوش الابن للولايات المتحدة الأميركية (2001-2009) انتهى بانتخاب باراك أوباما للرئاسة الأميركية (2009-2016)، كما تم عملياً إسقاط مبدأ الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور الذي منح بلاده صدارة القوى الكبرى المؤثرة في الشرق الأوسط لأربعة عقود تقريباً.
وقد تم بموجب هذا المبدأ منع السوفيات من الوصول إلى المياه المتوسطية الدافئة عامة والشرق الأوسط خاصة منذ عام 1957، لضمان المصالح الحيوية الغربية في هذه المنطقة الحساسة والغنية بالنفط والغاز الطبيعي. لكن سياسة الرئيس أوباما -التي ركزت على الوضع الداخلي على حساب السياسة الخارجية- أدت إلى بروز قوى إقليمية ودولية متنافسة في ما بينها.
أبعاد الصعود الروسي الإيراني
تعمل روسيا جاهدة لتعزيز نفوذها الخارجي واستعادة مكانتها السابقة -أيام الاتحاد السوفياتي- في النظام الدولي، ولا تتردد في استخدام وسائل عديدة لتحقيق هذا الهدف المنشود. فمن أدواتها الاستراتيجية مثلاً استخدام موارد الطاقة وتجارة الأسلحة، واستغلال الورقة الدينية كحامية للمسيحيين الأرثوذكس، إذ توظف كل ذلك في تعزيز دورها السياسي والتمدد نحو المناطق المحيطة بها كالشرق الأوسط وآسيا الوسطى.
ومن أهم النجاحات الروسية اتي شجعت موسكو على هذا الطموح؛ ضرب جورجيا وفتح الجبهة الأوكرانية والسيطرة الكاملة على شبه جزيرة القرم، وصولاً إلى التدخل العسكري في سوريا لإنقاذ نظام الرئيس بشار الأسد، المنهار سياسياً وعسكرياً رغم تكاليفه الباهظة. ويبقى السؤال المطروح: هل استطاعت موسكو توظيف ثمار تلك النجاحات اقتصادياً وسياسياً؟
إن إصرار الرئيس بوتين على الحفاظ على نفوذ بلاده في الخارج الروسي دفعه إلى البحث عن حلفاء اقتصاديين أكثر منهم سياسيين، فحاول منافسة أنابيب الشرق للنفط والغاز للسيطرة على السوق الأوروبية، والحصول على حصة مهمة من عقود وصفقات بترول وغاز إقليم كردستان العراق وإيران وسوريا، عبر استغلال حالة التنافر القائمة بين الدول الإقليمية.
وبعد أن أصبحت روسيا اللاعب الأول في الأزمة السورية؛ حاولت توسيع نفوذها باتجاه دول الخليج، فعقدت معها صفقات بمليارات الدولارات مقابل إيجاد حل للأزمة السورية، وأيضاً عززت روسيا تعاونها العسكري والتجاري مع مصر، وحاولت بناء سبل للتواصل بشأن الأزمة الليبية.
ومن جهة أخرى؛ تعتبر إيران قوة إقليمية لا يمكن تجاهلها، وكانت لها تاريخياً علاقات وثيقة مع الغرب منذ عهد الشاه عباس الأول (1571 - 1629)، واستمرت هذه العلاقات حتى في عهد الشاه محمد رضا بهلوي.
ورغم العداء الغربي المعلن تجاه إيران؛ فإن الأحداث السياسية الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط تفيد بأن هناك تعاوناً أميركياً إيرانياً يخدم مصالح البلدين، فواشنطن التي قضت على حركة طالبان السُّنية ونظام صدام حسين -وهم أعداء إيران في الخريطة الإقليمية- نسقت مع طهران عملية غزو العراق عام 2003، وطوال فترة الاحتلال عملت على تعزيز نفوذ إيران في العراق عبر حلفائها من الأحزاب الشيعية.
إضافة إلى ذلك، فإن غضّ النظر عن أعمال الحشد الشعبي في العراق، وعن وجود حزب الله في سوريا وهو المصنّف من قبل الأميركان تنظيماً إرهابياً، مع التركيز على «داعش السُّنيّة» (تنظيم الدولة الإسلامية)؛ هو دليلٌ آخر على طبيعة العلاقات الأميركية الإيرانية الخفية.
كذلك أُعطيت طهران -كقوة إقليمية- دوراً أكبر في المنطقة بعد توقيع الاتفاق النووي على حساب مصالح دول أخرى. وهكذا أصبح النفوذ الإيراني قوياً في لبنان من خلال حزب الله، وفي اليمن عبر جماعة الحوثي، وفي سوريا بدعمها بقاء النظام السوري.
اعتمدت موسكو على الميليشيات الشيعية الإيرانية والحليفة لها في فرض سياسة الأمر الواقع على الساحة السورية، إلا أن الضغوط الأميركية والأوروبية المتزايدة على البلدين دفعتهم إلى توسيع دائرة نشاطات تعاونهم مع دول أخرى مجاورة، كان آخرها لقاء القمة الذي جمع رؤساء إيران وروسيا وأذربيجان في طهران يوم 2 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.
إن ملفات ترسيم مياه بحر قزوين لاستخراج ثرواته الطبيعية، والخلافات في الحدود الجغرافية، والنفوذ الأميركي والإسرائيلي بأذربيجان، وعلاقة إيران بنزاع ناغورنو كرباخ، والتباين الكبير في طبيعة أنظمة الحكم (إيران دولة ثيوقراطية دينية بينما أذربيجان علمانية متعلقة بالغرب)، والخلاف الروسي الإيراني في مسألة تشكيل فدرالية كردية بسوريا؛ كلها عوامل تجعل الشراكة الاستراتيجية بين الدول الثلاث هدفاً بعيد المنال.
طموحات البلدين والموقف الدولي
يمكن القول بأن العلاقات الروسية الإيرانية هي علاقات تبادل مصالح وليست تعاوناً استراتيجياً؛ فمثلاً عندما فُرضت العقوبات الدولية على إيران بسبب برنامجها النووي وافقت موسكو على تطبيقها، لأنها حصلت على وعود باستخدام ميناء أوكرانيا على البحر الأسود لمدة 25 عاماً، ووعدت الدول الغربية بعدم قبول أوكرانيا في حلف الناتو لكبح اعتراضات روسيا.
لقد سبّب الصعود الروسي الجديد مخاوف لدى الغرب عامة والاتحاد الأوروبي خاصة، فقد ذكّرهم بالصعود النازي خلال الحرب العالمية الثانية الذي كلّف العالم حياة أكثر من 60 مليون إنسان، من أجل احتوائه.
وتجلى الرد الغربي بفرض عقوبات قاسية على موسكو أدت إلى أزمة اقتصادية خانقة في الداخل الروسي، وسقطت قيمة العملة الروسية إلى الضعف تقريباً. كما تم استخدام أداة النفط للتأثير على أسعار الذهب الأسود فهبطت إلى مستويات تاريخية، الأمر الذي أدى إلى حرمان الاقتصاد الروسي من إيرادات مهمة. وفي المقابل؛ لا توجد -حتى هذه اللحظة- سياسة خارجية ودفاعية للاتحاد الأوروبي تسمح له بلعب دور ريادي في النظام الدولي الحالي بإمكانه إعاقة الصعود الروسي والإيراني، بل كانت مواقف الدول الأوروبية متباينة ومختلفة في الأزمات العالمية، مثل الغزو الأميركي للعراق والثورات العربية والأزمات الاقتصادية في بعض الدول الأوروبية.
وقد دفعت سياسةُ ترامب «المتقلبة» الزعامات الأوروبية للمرة الأولى إلى التفكير في مستقبل علاقات بلدانهم مع واشنطن، والاعتماد على الذات في مسائل الدفاع والأمن رغم وجود حلف الناتو، وهناك محاولة جدّية لبناء صندوق نقد دولي خاص بالاتحاد الأوروبي بعيداً عن واشنطن. ولذلك تحاول موسكو توظيف هذا التباين في خدمة مصالحها واختراق الحصار المفروض عليها.
إن السياسة الخارجية الأميركية الشرق أوسطية ليست متخبّطة أو متنافرة كما يصفها البعض انطلاقاً من تصرفات رؤساء أميركيين، لأنها تُدار من قِبل آليات وأجهزة الدولة الدستورية، وليس بقرارات رئاسية فردية. إن الحفاظ على المصالح الأميركية والإسرائيلية في الشرق الأوسط هو النهج الأساسي للإدارات الأميركية المتعاقبة، رغم اختلاف طرق تحقيق هذه المصالح بين إدارة وإدارة.
وإضافة إلى ذلك؛ إنّ بناء علاقات متينة مع العالمين العربي والإسلامي، أساسها الاحترام المتبادل لمصالح الدول ورغبات شعوبها؛ سيقود إلى مزيد من الاستقرار الداخلي في روسيا وإيران وفي المنطقة. ولا بدّ للبلدين من إدراك أن تقاسم النفوذ والنفط والغاز بين الدول المسيطرة أو المؤثرة في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، لا يكفي لجني ثمار هذا النفوذ دون تحقيق السلام والأمان والاستقرار.}