العدد 1555 /21-3-2023

علي أنوزلا

رحّبت دول عديدة بالتقارب السعودي الإيراني، بما فيها التي عانت من التدخلات الإيرانية في شؤونها، بدءاً من دول الخليج كافة إلى مصر والعراق ولبنان والأردن وسورية وتونس والجزائر والسودان وموريتانيا، وحتى أميركا، رغم قلقها من إبرام اتفاق من خارج وصايتها، رحّبت به، ورأت فيه فرصة لتخفيف التوتر في المنطقة، خصوصاً إذا أدّى إلى وقف حرب اليمن التي تهدّد أمن حليفتها التقليدية السعودية واستقرارها، وصدر رد الفعل نفسه عن الاتحاد الأوروبي الذي تمنّى أن يساهم هذا التقارب في استقرار المنطقة، وفي الحدّ من التوترات التي تعرفها. رأت أغلب هذه الدول في التقارب السعودي الإيراني بوساطة صينية فرصة لانطلاقة جديدة في علاقات الطرفين الأمنية والسياسية والاقتصادية، وأوْلته أهمية كبرى بحكم ما للدولتين من ثقل في محيطهما الإقليمي وعلى المستوى الدولي، وعلاقاتهما المتداخلة مع قوى عالمية كبيرة، وتأثير ذلك على قضايا ومشكلات عالمية كبرى كثيرة.

دولة واحدة هي التي عبّرت صراحة عن انتقادها لهذا الاتفاق، هي إسرائيل التي عملت، على مدار السنوات الماضية، على تأجيج الخلافات بين العرب وإيران، وإشعال حرب بينهما تخوضها عنها بالوكالة الدول العربية المحيطة بإيران. ولكن دولة عربية وحيدة التزمت الصمت حيال هذا الاتفاق، المغرب الذي لم يصدر عنه حتى كتابة هذا المقال أي رد فعل تجاه اتفاق لقي ترحيباً كبيراً من دول المنطقة ومن القوى العالمية الكبرى. ويطرح استمرار هذا الصمت أسئلة عديدة بشأن تموقع المغرب مستقبلاً، عندما سيجد نفسه وحيداً إلى جانب إسرائيل يعادي النظام الإيراني، ويتهمه بتهمٍ كثيرة تحتاج إلى الأدلة والحجج الدامغة لإقناع العالم بها، كي يصطفّ إلى جانب الحذر المعبّر عنه في الرباط. هل يتعلق الأمر بتحوّل كبير في علاقات المغرب الاستراتيجية، بعد أن وضعت الرباط كل بيضها في السلة الإسرائيلية وبين يدي اللوبي الصهيوني في أميركا، وهو ما يفسّر، إلى حد ما، تصعيد الرباط في أزمتها التي لم تعد صامتة مع حليفها التقليدي والتاريخي فرنسا؟ وما هي التداعيات المرتقبة لمثل هذا التحوّل على تحالفات المغرب المستقبلية؟ وأية مكاسب محتملة يمكن أن يحقّقها المغرب من مثل اختيارات استراتيجية كهذه في ظرفيةٍ دوليةٍ تشهد تحوّلات عميقة وكبرى؟

في ظل شحّ المعلومات، والتحفظ التقليدي الذي يطبع تصريحات المسؤولين المغاربة، وفي هذه الحالة لا وجود لها أصلاً، تصعُب قراءة توجهات الدبلوماسية المغربية في وقت تشهد المنطقة والعالم اتجاهاً نحو تعدّد الشراكات الاستراتيجية في العلاقات الدولية. وهو ما تعرفه أغلب دولة المنطقة التي تسعى اليوم إلى "تصفير" مشكلاتها البينية، لإنهاء التوترات الإقليمية وتعزيز مصالحها المتبادلة وتقوية مواقعها الاستراتيجية، وهو ما يؤكّده التقارب السعودي الإيراني، وقبله السعودي التركي، والإماراتي التركي، والمصالحة الخليجية مع دولة قطر، وتطبيع العلاقات المصرية التركية، والانفتاح العربي على نظام بشّار الأسد في سورية، وفي الوقت نفسه، التطلّع إلى التموقع في عالم متحوّل في ظرفيةٍ دوليةٍ دقيقةٍ تشهد أزماتٍ غير مسبوقة منذ نهاية الحرب الباردة، تتمثّل في الحرب الروسية الغربية في أوكرانيا وتداعياتها المدمّرة على الاقتصاد العالمي، ودورها المتعاظم في تسريع ميلاد عالمٍ متعدّد الأقطاب، يتيح للقوى الدولية الصاعدة والتحالفات الإقليمية الفرصة للقيام بأدوارٍ تؤثر في رسم الاستراتيجيات الكبرى التي ستحكُم عالم الغد.

الاتفاق السعودي الإيراني عنوان تحوّل كبير ستشهده المنطقة ضربٌ في العمق سياسات الاصطفاف التي حاولت إسرائيل وأميركا بناءها سنواتٍ، لعزل إيران وضربها من خلال تضخيم خطرها في المنطقة. وقد انخرط المغرب، إلى جانب عدة دول عربية، في هذا الاصطفاف، وقطع علاقاته مع إيران بفعل سياساتها التدخّلية في المنطقة، والشيء نفسه أقدمت عليه أغلبية الدول العربية، بما فيها البعيدة جغرافياً عن إيران، عندما قطعت علاقاتها مع طهران، دعماً أو تضامناً مع السعودية ودول خليجية. وطوال سبع سنوات، فشلت سياسة عزل إيران داخل محيطها الإقليمي في تحقيق هدفها، والاتفاق الإيراني السعودي، وقبله التقارب الإيراني الإماراتي، تعبيرٌ عن فشل هذه السياسة، بعدما اختارت الدول التي كانت تقود المواجهة مع طهران طريق التسوية السياسية بدلاً من المواجهة العسكرية والتصعيد الدبلوماسي والإعلامي. وللمفارقة، إسرائيل هي التي تجد اليوم نفسها شبه منبوذة عالمياً، بسبب التصرّفات والتصريحات العنصرية لحكومتها المتطرّفة، ومعزولة إقليمياً إلا من أنظمة عربية مطبّعة تحوّلت إلى وكالات وساطة بينها وبين مقاومة الشعب الفلسطيني البطل. فيما تبدو إيران، بالرغم من مشكلاتها الداخلية، أكثر جدّية في تعاملها مع جيرانها العرب.

لذلك، من مصلحة الدبلوماسية المغربية أن تعيد النظر في توجّهات بناء تحالفاتها الإقليمية غير بعيد عما تشهده المنطقة من تحولاتٍ كبرى تمهّد لميلاد نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب بدأ في الظهور، وتسعى أغلب الدول إلى حجز تذكرتها داخله قبل إقلاع قطاره الذي بدأ التحرك فعلاً. فما الذي يمنع اليوم الرباط من السعي نحو طيّ صفحة خلافاتها مع طهران، بدلاً من الهرولة نحو توثيق علاقاتها مع تل أبيب التي لا يمكن الثقة بها، على حساب موقعها ومركزها في محيطها الإقليمي دولة متوازنة في علاقاتها الدولية، وهو ما ظلت الدبلوماسية المغربية تجسّده داخل محيطها الإقليمي، وفي المنطقة العربية خصوصاً؟ وإذا كانت السعودية التي عانت أمنياً وعسكرياً وسياسياً وإيديولوجياً من التدخّل الإيراني في شؤونها وعلى حدودها الجنوبية قد تجاوزت كل خلافاتها مع طهران، وأبرمت معها اتفاق مصالحة، فما الذي يمنع الرباط من السعي إلى فتح صفحة جديدة مع طهران تحفظ لها مصالحها وتضمن لها استقلالية قرارها عن كل الأقطاب التي تريد أن تحوّل دولاً بأكملها حطباً في حربها الإيديولوجية مع النظام في طهران؟

الجدير بالذكر أن طهران، وبالرغم من كل الاتهامات التي يكيلها لها المسؤولون المغاربة والإعلام الرسمي المغربي، لم ترد على أيّ منها، وحافظت على شعرة معاوية في علاقاتها مع الرباط. والكرة اليوم في ملعب الدبلوماسية المغربية، ومن خلال علاقة الصداقة التقليدية بين الرباط والرياض، أصبحت لها قناة حوار موثوقة يمكن أن تشكّل لها حافزاً للسعي نحو احتواء خلافاتها مع طهران، بدل المضيّ في تصعيد دبلوماسي وإعلامي غير مثمر، وينعكس سلباً على علاقات المغرب الإقليمية وداخل محيطها العربي. أما الثقة العمياء بإسرائيل والهرولة المفرطة في التطبيع معها فلن تؤدّياً سوى إلى تعقيد مشكلات المغرب الإقليمية والداخلية وتعميقها.