العدد 1398 / 29-1-2020

بقلم : محمد طيفوري

استطاعت الدبلوماسية المغربية، أخيراً، كسب نقاط جديدة لمصلحتها في قضية الصحراء، بعد تغيير استراتيجية تحرّكها، فانتقلت من أسلوب دفاعي نحو آخر ذي منزع هجومي، وقطعت مع سياسة الكرسي الفارغ، في المنتديات الإقليمية والمحافل الدولية، وابتعدت عن منطق الاصطفاف والولاء نحو الانفتاح وتوسيع جبهات التعاون، ما أدّى إلى مزيد من تضييق الخناق على خصوم الوحدة الترابية للمغرب، في سنةٍ كانت مسرحاً لأحداث عديدة استطاعت المملكة حسمها بذكاء لمصلحتها.

تمكّن المغرب من استغلال التطورات الداخلية المرتبطة بملف الصحراء، طوال هذا العام، لدعم وتعزيز مبادرة "الحكم الذاتي" التي اقترحها منذ 2007، لإنهاء واحد من أقدم النزاعات التي خلفها الاستعمار في أفريقيا، فالتزم سياسة الحياد تجاه الحراك داخل الجزائر، مع توظيف نتائج الصراع المحتدم بين أجنحة النظام لمصلحته. واستغل تصريح الأمين العام السابق لحزب جبهة التحرير الوطني الجزائري، عمار سعيداني، الذي أكّد فيه أن "الصحراء الغربية من الناحية التاريخية مغربية". وكان لهذا الموقف صدى وسط الحراك الجزائري، حيث طالب فصيل من المتظاهرين بابتعاد النظام الجزائري عن القضية الصحراوية، متهماً الصحراويين بتبديد أموال الجزائريين، وإشاعة العداوة بين الشعوب المغاربية. وخلّف رحيل رئيس أركان الجيش الجزائري أحمد القايد صالح، أكبر داعمي الجبهة، ارتباكاً واضحاً في صفوفها، ما دفع قيادتها إلى تمديد أشغال مؤتمرها الخامس عشر 48 ساعة.

خارجياً، تلقّى رفاق زعيم الجبهة، إبراهيم غالي، ضرباتٍ عديدة، إذ لا يزال مسلسل الدول الساحبة اعترافها بـ"الجمهورية الصحراوية" مستمرّاً؛ فمن أصل 84 دولة في ثمانينيات القرن الماضي، لم يبقَ في القائمة الآن سوى 32 دولة. في وقت تتهاوى فيه حكومة نيكولاس مادورو في فنزويلا، آخر قلاع أميركا اللاتينية الداعمة للصحراويين. فيما قرّرت السلفادور دعم المقترح المغربي، والتراجع عن اعترافها بالجمهورية الذي دام ثلاثة عقود. وفتحت كوبا قنواتها الدبلوماسية مع المغرب، بتعيين سفيرٍ لها في الرباط.

جاءت الاستقالة المفاجئة للرئيس الألماني السابق، هورست كوهلر، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى الصحراء، لتعيد كل شيء إلى نقطة البداية، بعدما نجح منذ تعيينه في آب 2017، في إشراك الأطراف الأربعة المعنية في جولتين من المفاوضات. وكانت إقالة الرئيس الأميركي ترامب، مستشاره للأمن القومي، جون بولتون، بمثابة العاصفة التي خلطت الأوراق لدى قيادة الجبهة، فقد راهنت كثيراً على "عاشق الحروب" المؤيد أطروحة الانفصال، لممارسة الضغط على المغرب، من أجل تليين مواقفه.

عزّزت الدبلوماسية المغربية موقعها وسط هذه الأحداث، فسجلت، على الصعيد الدولي، عدة أهداف في مرمى خصوم وحدتها الترابية، بدءاً بتجديد اتفاقية الصيد البحري مع بلدان الاتحاد الأوروبي، والإصرار على توسيع نطاقها حتى تشمل مياه المناطق الصحراوية، على الرغم من قرار المحكمة الأوروبية اعتبارها "مناطق متنازعاً عليها"، ما يعني أن المغرب انتزع اعترافاً ضمنياً يؤكّد سيادته على هذه الأقاليم، بمنحه أحقية التصرّف في هذه المياه. مروراً بنيل ثقة مجلس الأمن الذي أقرّ تمديد مهمة بعثة الأمم المتحدة (المينورسو) إلى الصحراء سنة، أي حتى 31 تشرين الأول 2020، بدل ستة أشهر المعمول بها السنة الماضية، واختفاء مطالب مراقبة حقوق الإنسان في الصحراء. وصولاً إلى استبعاد حضور "بوليساريو" في قمم أفريقيا مع الشركاء الدوليين، حيث رفضت روسيا أي تمثيلية للجبهة في قمة سوتشي الروسية الأفريقية، مكررة بذلك سيناريو قمة "تيكاد 7" اليابانية الأفريقية.

حرصت المملكة، بالموازاة مع إدارة المعركة الخارجية، على تغيير المعطيات على أرض الميدان، متحدّية الاستفزازات المتوالية للانفصاليين. وقد تحقق ذلك، بعد نجاح الخارجية المغربية في تعزيز حضور التمثيليات الدبلوماسية الأجنبية في الأقاليم الصحراوية، من خلال افتتاح أربع قنصليات، لكل من جزر القمر والغابون، في مدينة العيون، وغامبيا وغينيا في مدينة الداخلة. كذلك عملت على تنظيم تظاهراتٍ رياضيةٍ دولية في الصحراء، وكان جديدها رالي "موناكو- داكار" الذي عبر الصحراء في اتجاه موريتانيا، من المعبر الحدودي الكركرات، غير آبهٍ لتهديدات جبهة البوليساريو.

تتويجاً لكل هذه المكاسب، يسعى المغرب، هذه الأيام، إلى إعلان سيادته على المجال البحري في الأقاليم الجنوبية لأول مرة منذ الاستقلال. فقبل أسابيع، تقدّم وزير الخارجية والتعاون الدولي، مستمرّاً"ناصر بوريطة، أمام مجلس النواب، بمشروعي قانون يتعلقان بترسيم حدود المياه الإقليمية، وتحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة على مسافة مائتي ميل بحري، عرض الشواطئ المغربية، ما سيمكّن المغرب من بسط سيادته على مجال بحري يمتد حتى أقصى الجنوب، بما في ذلك المياه الإقليمية للصحراء المتنازع عليها مع جبهة بوليساريو.

يكتسي إقرار هذين التشريعين حساسية بالغة، لما سيترتب عنهما من تبعات، ما دفع الخارجية المغربية إلى إرجاء الأمر، إلى حين التوافق مع دول الجوار المعنية، وتحديداً إسبانيا وموريتانيا، خصوصاً بعد الردود التي خلّفها القرار في الأوساط الحزبية في مدريد، بعدما أدركت جدية الخطوة المغربية، ما استعجل برمجة زيارة لوزيرة الخارجية الإسبانية الجديدة للمغرب، نهاية شهر كانون الثاني الجاري، كأول وجهة لها بعد التنصيب.

استهلت الدبلوماسية المغربية العام الماضي بالنقاش حول اتفاقية الصيد البحري مع أوروبا، وختمته بمناقشة مشروع إعلان السيادة القانونية على المجال البحري لأراضيها، ما يؤكد نجاعة استراتيجية الهجوم بدل الدفاع، التي تنهجها الرباط في تعاطيها مع قضية وحدتها التراتبية، فهذه المكاسب تحققت في سنةٍ شهدت تذبذباً واضحاً في مواقف الحلفاء التقليديين للمغرب (فرنسا، الإمارات، السعودية...).