صالح السنوسي

كان قرار البرلمان الليبي يوم الثاني والعشرين من آب برفض منح الثقة لحكومة الوفاق الوطني بمثابة صدمة هزت قلب المشهد السياسي الليبي الذى ظل منذ اتفاق الصخيرات في حالة شلل رغم ما يجري حوله من معارك.
لا شك أن هذه الصدمة أعادت نوعاً من الحياة ليس فقط لإحداثيات المشهد ورموزه، بل أيضاً إلى الشارع الذى فوجئ حقاً بماجرى، ورغم التباين في تفاصيل ردات الفعل فإنه يمكن تصنيفها في تيارين يؤيدان ما حدث كل حسب تفسيره ورغبته.
فالأول يرى في قرار البرلمان برفض التشكيلة الحكومية المقترحة صفعة في محلها وموقفاً شجاعاً طال انتظاره ضدّ ما يسميه هؤلاء «حكومة الوصاية المفروضة من الخارج». ولهذا السبب فأصحاب هذا الرأي مؤيدون للقرار دون تحفظ، غير أن هؤلاء يأملون أن يؤدى عدم منح الثقة لهذ التشكيلة إلى سقوط المجلس الرئاسي سواء لعدم تمكنه من تقديم تشكيلة جديدة في المدة المحددة، أو لعدم نيل التشكيلة الجديدة ثقة البرلمان. وسيؤدي ذلك في نهاية المطاف -حسب هؤلاء- إلى نهاية اتفاق الصخيرات والعودة إلى التفاوض من جديد، وهذا الأمر يبدو للكثيرين تطرفاً بالغ الخطورة لأنه لا يفتح باباً للحوار بل مرحلة أخرى من التناقضات والصراع الدامي الذى لا يملك أي من أطرافه أدوات حسمه عسكرياً.
أما التيار الثاني فيرى أن هذا القرار -رغم ما قد يثور حوله من جدل شكلي وقانوني- حقق عدداً من النتائج الإيجابية التي من أجلها يجب تأييده دون النظر إلى تحفظات تضر ولا تنفع بالنظر إلى الواقع الليبي الذى ينغمس في العبثية والفوضى. 
ومع ذلك فإن ما صدر عن مجلس النواب من تصريحات وإجراءات مصاحبة ولاحقة للقرار أضفت شيئاً من الغموض المتعمد على مقاصد القرار، مما أدى في المقابل إلى جعل المجلس الرئاسي يبدى قبوله للقرار في صيغة لا تخلو من تحفظات بين السطور، وعلامات استفهام مبطنة تضفي بدورها غموضاً مقصوداً على فحوى قرار القبول الصادر عن المجلس الرئاسي.
في المقابل لم يخل بيان المجلس الرئاسي من مؤشرات تدل على وجود تناقضات بين سطوره، ففي الوقت الذى يرحب فيه بالقرار الصادر عن مجلس النواب، يطلب من الوزراء الذين يسميهم بالمفوضين أن يستمروا في أداء مهامهم إلى حين اعتماد النواب لتشكيلة الحكومة الجديدة في جلسة صحيحة، وكأن هؤلاء الوزراء هم فعلاً وزراء في حكومة سبق أن نالت الثقة من البرلمان لكي تستمر في تسيير الأعمال لحين اعتماد حكومة جديدة.
ويعني هذا أن المجلس الرئاسي سيظل محتفظاً بما يسميه الحكومة المفوضة إلى أن يتم اعتماد تشكيلة حكومة التوافق، وأنه لا يقبل أن تقوم الحكومة المؤقتة المنبثقة من مجلس النواب بإدارة شؤون البلاد إلى حين نيل حكومة التوافق ثقة المجلس.
إن ما يمكن استخلاصه من مشهد الأفعال وردود الأفعال بين الطرفين هو مجموعة من الحقائق لا تساعد على الخروج من المأزق الليبي، وأهم هذه الحقائق هي:
1- وجود أزمة ثقة عميقة بين الطرفين تجعل كلاً منهما يفكر في التحوطات والضمانات قبل أن يقوم بأي فعل أو رد فعل تجاه الآخر، وهذه الحالة عندما تسود بين أي طرف وآخر فإن أسلوب التعامل بينهما سيغلب عليه الطابع التآمري أكثر من روح التعاون.
2- تربص كل طرف بالآخر، فهناك تيار في مجلس النواب لا يستهان به يطمح إلى إطاحة المجلس الرئاسي وليس إلى التعاون معه، وبالتالي فإن تفكير هؤلاء يستغرقه البحث عن الوسائل والفرص التي تؤدي إلى التخلص من المجلس الرئاسي وليس البحث عن إمكانية إيجاد السبل للالتقاء والتعاون، كما أن ما يظهر من حراك المجلس الرئاسي وتصرفاته يدل على أنه يرى في مجلس النواب خصماً له، وبالتالي ينبغي مواجهته وتحجيم قدرته على الفعل بأية وسيلة ممكنة، حتى لا يكون قادراً على اتخاذ مواقف وقرارات تتعارض مع رغبات المجلس الرئاسي.
لعل إحدى أهم إشكاليات المشهد السياسي الليبي تكمن في حقيقة أن المجلس الرئاسي يمثل ملتقى التناقضات بين أطراف الصراع في هذا المشهد، ولهذا فإن كل طرف من هؤلاء يخشى أن يتحول هذا المجلس إلى أداة في يد خصمه يفرض من خلاله إرادته ويمرر أجندته السياسية أو الأيديولوجية.
هذا ما يبدو عليه المجلس الرئاسي إذا ما نظر إليه كل طرف من أطراف الصراع على أنه إحدى المؤسسات التي أفرزها اتفاق الصخيرات، أما إذا نظرنا إليه من الداخل كشبكة من العلاقات بين مجموعة من الأفراد كل منهم يمثل طرفاً من أطراف الصراع، فإننا نجد طبيعة العلاقة السائدة بين كل عضو وآخر داخل هذه المؤسسة تتسم بالشك والريبة والتوجس حيال ما يصدر عن الآخر من تصرف أو تفسير لأي إجراء أو موقف.
لقد جاءت نصوص اتفاق الصخيرات المتعلقة بأخطر القضايا الخلافية فضفاضة أو غامضة ومثيرة للجدل، لتتوافق مع «سوء النوايا» المبيتة للأطراف التي ستقوم لاحقاً بتفسيرها في مرحلة التنفيذ، فالمليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية العابرة للحدود ومؤسسة الجيش ومحاربة الإرهاب ظلت موضوعات شائكة داخل الاتفاق؛ لأن نصوصها الملغمة وتفسيراتها القابلة لتأويلات كثيرة لم تحظ بتوافق واضح خال من اللبس وسوء النية.
وبما أن هذه القضايا هي المسائل الجوهرية في حالة الصراع الليبي، فإن بقية نصوص الاتفاق وما أفرزته من مؤسسات، كالمجلس الرئاسي ومجلس الدولة والبرلمان، أصبحت رهائن وضحايا عدم وضوح التوافق في هذه المسائل. ومن هنا بدت العلاقة بين هذه المؤسسات التي لم يكتمل تأسيس بعضها بعد، علاقة خصومة وتربص، لتعكس الغموض وسوء النية المضمرة في ما سمي بالتوافق حول هذه المسائل الجوهرية التي تعتبر هي العمود الفقري لهذا الاتفاق.