العدد 1457 /14-4-2021

سلطت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، في تقرير مطول يوم الجمعة، الضوء على ملف المليشيات الموالية لإيران في العراق، موضحة التعقيدات المستمرة التي تحيط بواحدة من القضايا التي لا تزال عالقة، والمرتبطة بالحرب على تنظيم "داعش" الإرهابي. وفي حين أن العديد من المسؤولين الأميركيين لا يرون في هذه المليشيات إلا مجموعات تقاتل بالوكالة من أجل تعزيز نفوذ إيران، فإن التقرير الذي أعدته الصحيفة يشير إلى أن هذه المجموعات متجذرة بعمق في نسيج المجتمع العراقي، ومرتبطة بتاريخه المضطرب.

بدأت "شرعية" هذه المليشيات، كما يوضح التقرير، من خلال الحرب على "داعش". فبمجرد أن بدأت الدعوات لمحاربة التنظيم، كان الشبان العراقيون يتدافعون إلى قوائم المتطوعين، لينطلقوا في حافلات متجهة إلى الخطوط الأمامية. ومع تراجع قوة وتنظيم الجيش العراقي، غالبا ما كان يقع على عاتق هذه المليشيات مواجهة هجمات التنظيم.

ينقل التقرير عن أحد الأعضاء السابقين في هذه المليشيات، ثامر الصافي، قوله إنه "في ذلك الوقت، كان الأمر يتعلق بشيء واحد فقط (..) مستقبلنا. كان الأمر يتعلق بالعراق"، مستذكراً معارك 2014 التي قتل فيها اثنان من أشقائه.

لاحقاً، سيكون لهذه "الشرعية الجماهيرية عواقب بعيدة المدى"، وفق الصحيفة، حيث ستتدرج المليشيات المنتصرة على التنظيم في المستويات العليا من السلطة في العراق، وستضع البلاد، التي خرجت للتو من حرب مع التنظيم، على مسار من التصعيد مع الولايات المتحدة. وبدعم من إيران في كثير من الحالات، صعدت هذه المجموعات ضرباتها الصاروخية على المواقع العسكرية الأميركية في السنوات الأخيرة، مهددة بإشعال حرب واسعة النطاق بين واشنطن وطهران.

مع ذلك، وفي حين أن السردية الرائجة حول المليشيات الطائفية تميل إلى اختصارها كمجموعات تقاتل بالوكالة عن إيران، فإن الواقع كما يشير تقرير الصحيفة الأميركية يبدو أكثر تعقيداً. ولدت الشبكة الرسمية لهذه المجموعات، المعروفة باسم قوات "الحشد الشعبي"، في عام 2014، بدعم شعبي واسع النطاق في جميع أنحاء الجنوب، بعد استجابة عشرات الآلاف لنداءات المرجع الديني علي السيستاني، من أجل محاربة "داعش". مع ذلك، فإن جذور بعض هذه المليشيات تعود إلى عقود من الزمن.

والآن، وفق "واشنطن بوست"، يطرح الوجود المعقد لهذه المجموعات أسئلة أبعد من مجرد نفوذ طهران، كما هي المقاربة الرائجة لها، لتشمل مخاوف بشأن ما أصبحت عليه هذه الجماعات، وعلاقتها بالدولة، ودورها في قمع التغيير؛ حيث أصبحت قوى اقتصادية، ومجموعات عسكرية تنفذ أجندات النظام السياسي. إنها متجذرة بعمق، كما يشرح التقرير، في كل المؤسسات الحاكمة في البلاد، كما كان لها الدور الأساسي في قمع الاحتجاجات الشعبية التي بدأت ضد الحكومة في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2019، عطفاً على أنها أصبحت اليوم على واجهة ملفات الانتهاكات الحقوقية في البلاد.

"لقد شعرت بالندم لأنني سمحت لأخي بالقتال". يقول عبد الله، 58 عاماً، لمعدي التقرير. ويضيف، وهو متطوع سابق في المليشيات أيضاً وقتل قناص من تنظيم "داعش" شقيقه حيدر في كمين في خريف 2014: "أدعو الله كل يوم لأعيش بما يكفي للاعتناء بأطفاله".

في الناصرية، إحدى المدن التي كانت جبهة لقتال التنظيم، يبدو المشهد كما تصفه "واشنطن بوست" مشابهاً، حيث تصطف وجوه القتلى، تماماً مثل حيدر، على لافتات باهتة في الشوارع. في مشهد آخر مقابِل، يتم استخدام هؤلاء الضحايا بشكل مستمر في الحملات الدعائية للتجنيد في المليشيات.

بينما تقف عائلات الضحايا على حافة هذا التناقض، بين الاحتفاء السياسي بأبنائهم كشهداء "قُتلوا أثناء تأديتهم لواجبهم الديني والوطني"، وبين شعورهم العميق بالخسارة، وبأن المليشيات التي قاتلوا وماتوا من أجلها تخلت عنهم، وربما خانتهم أحياناً.

"وعدونا بالأرض وبتعويضات"، كما يقول للصحيفة عبد الستار، أحد الضحايا، مشيراً إلى أنه في المرة الأخيرة التي ذهبت فيها إلى مكاتبهم، أخبرتهم أنني "أتمنى لو لم أرسل ابني، مشتاق، ليموت". وفي حين كانت العائلة تتلقى مبلغ 900 ألف دينار عراقي شهرياً، أي ما يعادل أكثر من 600 دولار بقليل، فإن هذه التعويضات توقفت السنة الماضية، من دون أن تتلقى العائلة أي تفسير. "يقولون إنها ستعود، لكنها لم تعد".

وعلى الرغم من أن شبكة المليشيات العراقية تضم مجموعات من معظم الطوائف الدينية في البلاد، إلا أن المليشيات الطائفية الموالية لإيران تهيمن على المشهد، كما أن العديد منها مدعوم من إيران. وشكلت المليشيات البارزة، مثل "كتائب حزب الله" و"عصائب أهل الحق" و"حركة حزب الله" و"النجباء" و"بدر"، مصدر قلق كبير للمسؤولين الأميركيين، الذين اتهموا العديد منها في الأشهر الأخيرة بشن هجمات صاروخية استهدفت مرافق أميركية. وتسببت هذه الهجمات في مقتل أميركيين وأجانب آخرين، فضلاً عن مواطنين عراقيين، فيما ردت واشنطن في عدة مناسبات وقتلت عناصر من المليشيات، كما حدث أيضاً عندما اغتالت إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، قائد "فيلق القدس" بالحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني والقيادي في "الحشد الشعبي" أبو مهدي المهندس، في مطار بغداد في بدايات العام الماضي، ما جعل العراق ساحة للتوترات بين الولايات المتحدة وإيران.

ومع إعلان بعض المليشيات المستمر عزمها على طرد الجيش الأميركي من العراق، لا تزال هناك مخاوف من حدوث المزيد من التصعيد، كما تورد "واشنطن بوست".

كانت مجموعات مثل "بدر"، التي تأسست عام 1982 في المنفى في إيران، حسب الصحيفة، فاعلة في السياسة العراقية حتى قبل فترة طويلة من الصراع الأخير. وكانت في وضع يؤهلها لتجنيد المقاتلين ضد تنظيم "داعش" في المدن العراقية الكبرى، مثل الموصل وتكريت في الشمال. وكان لدى "بدر" شبكة واسعة من المكاتب، كما كان لدى العديد من المجندين روابط أيديولوجية مع المجموعة. لكن آخرين، تماماً، مثل مشتاق، انضموا لأنهم كانوا قلقين بشأن "داعش". وفي هذا الصدد، جاء في تقرير الصحيفة "كانت مقاطع الفيديو الدعائية من أجل التجنيد تحث الشيعة على القتال من أجل أضرحتهم المقدسة وبلدهم، وكان مكتب بدر هو الأقرب".

يشرح عبد الستار ذلك بالقول: "كان أصدقاؤه يجمعون المال، وكان مكتب بدر هو الأقرب، لذلك وافق على التسجيل هناك"، مضيفاً أنهم "أخذوهم إلى الحرب من دون تدريب، وأرسلوهم مباشرة إلى الخطوط الأمامية".

وفي حين تستخدم مليشيا "الحشد الشعبي" أموالاً من الميزانية الفدرالية العراقية لدفع أموال لعائلات ضحايا الحرب، فإن هناك ضعفاً في المساءلة بشأن أين تذهب تلك الأموال، كما أن القرارات حول المجموعات التي يتم تمويلها ومقدار هذا التمويل، غالباً ما يتم اتخاذها من قبل لجنة من كبار قادة المليشيات خارج إشراف الحكومة، وفقاً لورقة بحثية أعدتها مؤسسة "تشاتام هاوس" للأبحاث.

وتخصص الميزانية الوطنية حوالي 68 مليون دولار لشراء الأراضي لأسر الضحايا. لكن تم تخصيص 3500 قطعة أرض حصرياً للضحايا من أقارب النافذين في المليشيات منذ عام 2014، وفقاً لـ"مؤسسة الشهداء العراقية"، فيما تم تفسير هذا الأمر بأنه جزء من الصعوبات البيروقراطية.

في منزل صغير آخر على أطراف الناصرية، مبني على أرض خصصت لتعويض أسر الشهداء، هناك صورة معلقة لضحية أخرى، علي، بوجه مبتسم وثوب أخضر، بجانب أحد المزاراتالمقدسة في العراق. يقول والده عماد للصحيفة إنه تشاجر معه مراراً بشأن قراره إغلاق شركته المزدهرة في مجال الإلكترونيات للانضمام إلى "حركة حزب الله". "قلت له إن العراق لا يستحق أن تموت من أجله (..) كل ما سيطلبه منك هذا البلد هو واجبات - لن يمنحك حقوقك". لكنه قال "لا، أريد الدفاع عن بلدي". قُتل علي وهو في أوائل العشرينات من عمره، في عام 2016، أثناء محاولته نزع فتيل عبوة ناسفة في مدينة سامراء.

على الجانب الآخر من الصورة التي تعكس الواقع السياسي والاجتماعي المعقد في العراق، يقول حسين، شقيق علي، للصحيفة، إنه انضم إلى الاحتجاجات المناهضة للحكومة، مشيراً إلى ذلك باعتباره طريقته هو في إنقاذ العراق. وتطرق إلى تلك المفارقة بقوله: "انضم أخي علي للقتال لنفس السبب الذي جعلني أنضم إلى الاحتجاجات". أما الأب، فقد اكتفى بالإشارة إلى أن "هناك إحباط بشكل عام بين العديد من العائلات، مثلنا تماماً".