العدد 1390 / 11-12-2019

مولدي الأحمر

يواجه العراقيون اليوم مشكلة سياسية غاية في التعقيد، تراكمت فيها مخلفات استبداد النظام البعثي، والإرث الأميركي الذي صمّم النظام السياسي العراقي بعد العام 2003 على مقاس مصالحه ومصالح إسرائيل، وإرث الإرث الأميركي – العراقي، حيث الطائفية والعرقية والمرجعية الدينية جعلت من فكرة تحقيق الديمقراطية التي ادعت الولايات المتحدة أنها جاءت إلى العراق من أجلها، هدفا بعيد المنال، لقيامه على المغالطة، ولخصائص القوى العراقية المتصارعة اليوم على السلطة.

والمشكلة الحقيقية التي يواجهها العراقيون اليوم، ربما من دون تحديدها مشكلة، وهذا مُحبط، هي ما إذا كان حراكهم الثوري يستهدف نقض المفهوم الذي ترسّخ عندهم بشأن علاقة مثلث مفاهيم وواقع الطائفة والعرق والدين في إنتاج الحالة التي عليها اليوم بلدهم، صانع ذاكرة ومخيلة الحضارة العربية - الإسلامية.

كل من يتابع أحداث العراق لا يجد سوى ذهاب وإياب بين أضلاع هذا المثلث، ولا أحد من السياسيين يتحدّث عن العلاقات الاجتماعية الجديدة التي دفعت الطاقات التي نراها اليوم إلى الشارع، لتتكلم عن الجوع والفقر ونقص الخدمات، وعن الفساد المستشري في كل مفاصل النخبة السياسية، فلا أحد يعتبر من مجمل المحدّدات الجديدة التي دخلت في حياة الشعب العراقي، لتغير كل يوم من نوع العلاقات التي تربط بين أفراده، وتتلف شيئا فشيئا ركائز ثقافته البالية، تلك التي تستدعي الانتماءات إلى العشيرة والطائفة والعرق، وتجعل المرجعية الدينية فوق كل شيء، وتتشبث بها المنظومة السياسية والأخلاقية والثقافية التي أصبحت مرفوضة.

والمثير أن عدم وضع هذه القضايا في مقدمة النقاشات السياسية العراقية ليس مصادفة، إذ يسمح

"مثلث الطائفة والعرق والدين يطحن العراقيين حالياً بالفساد والاستبداد، ويمنعهم من النهوض التاريخي" عدم التركيز عليها للمستفيدين من الوضع القائم بالبقاء في دائرة المثلث الذي يتلهى الجميع بتدوير زوايا أضلاعه في كل الاتجاهات، جاعلين بذلك الحلول الممكنة مقتصرةً على فكر هذه القوى التي يحاربها المهانون والمعذبون في بلدهم الغني. إمساك الخيط من بدايته، بفضح خصائص الطبقة السياسية في البرلمان وجميع أجهزة الدولة ومبادئ المحاصصة القائمة عليها، سيعرّي أسباب الفساد السياسي والمالي، وسيكشف قاعدته الصمة الطائفية والعرقية والدينية. ولو تم التركيز على ذلك، لعرّى العراقيون حقيقة الفاسدين من السياسيين والتجار، ورموز الطائفية وقادة الأعراق والأنساب والدعاة الدينيين الطائفيين، والمتعاونين مع القوى الخارجية بمختلف أنواعها، ولفضحوا انتماءهم إلى الشبكة نفسها من المصالح والمعارف والخدمات المتبادلة، وفقا لقوانين اللعبة نفسها، ولكن من مواقع مختلفة: المكانة والوجاهة والسلاح والمال والسلطة الرمزية، كل حسب ما في حوزته من رأس مال، وحسب مهاراته في تصريفه مثل العملة في مختلف المجالات، بطرقٍ مسرحيةٍ مختلفة، وبحدود لا يتجاوزها.

ما معنى أن ينادي شعبٌ بالديمقراطية التي تقوم على مفهوم المواطنة، بما يجعل من الأخيرة المبدأ الأصلي لتنظيم الشأن السياسي، ثم نرى السياسيين يذهبون ويجيئون، في مشهدٍ مضحك، يستفتون رأي أشخاص من المفترض أن لا يقربوا السياسة بوصفها نشاطا غير طهري، وأن تكون مهمتهم تقتصر أولا على حل مشكلتهم الخاصة مع الله عز وجل، وفق ما أمر به، ثم إن استطاعوا مساعدة المؤمنين على السلوك مسلكا حسنا نحو الآخرة؟ جواب كثيرين أن هذه الفكرة لا تنطبق على ديننا الإسلامي الحنيف، بوصفه دينا وسياسة في آن، ولكن متى كانت الأديان ميتافيزية لا تتطور أحوالها؟ بل أكثر من ذلك، متى كان ذلك أصلا من أصول الدول السلطانية التي تعاقبت على تاريخنا الطويل؟ كي تكون هذه الفكرة التي يتمسك بها بعضهم صحيحة يجب أن نفترض أن مجتمعنا لم يتغير منذ جاءتنا الرسالة المحمدية الثورية (بما في ذلك الحالة الديمغرافية)، ويجب أيضا أن نفترض أن السنة والشيعة، وغيرهما من الكيانات التي يتكلمون عنها أو باسمها، حقائق ميتافيزيقية. هناك أيضا من يخاف على الدين إذا قبل بفكرة التطور وهذا انحطاط في العقل، فجميع الأديان تطوّرت وجميع الأديان الكبرى صمدت وبقيت، وأولها الدين الإسلامي الذي ما زال أمامه تاريخ طويل. ومعنى هذا أننا لسنا نموذجيين في الكون، وتجربتنا وحياتنا ومعتقداتنا ليست أشياء، بل تمثلات للعالم، ومعايير أخلاقية، وترتيبات سياقية للعلاقة بين معتقداتنا وإدارتنا شؤوننا العامة. وبما أننا نتطور، فإن معاييرنا ومرجعياتنا لا بد أن تتطور أيضا، بما يترتب عن ذلك من بروز لمفاهيم وطرق جديدة ومختلفة، يتطلب تفعيلها وممارستها إعادة فهم وترتيب لأولوياتنا المرجعية في تسيير حياتنا.

هل يملك من جعلهم العراقيون مراجع يستفتونهم في كل شيء المفاتيح الفكرية للعصر الحديث؟

"معاييرنا ومرجعياتنا لا بد أن تتطور، بما يترتب عن ذلك من بروز لمفاهيم وطرق جديدة ومختلفة"هل طوّروا التفكير الديني، بحيث يصبح قادرا على تمثل السياسة والحياة العامة والحقوق الفردية بما يتلاءم مع العصر؟ لو فعلوا ذلك، لانتهوا بوصفهم مرجعية في هذا المجال، لأن رأيهم سيتساوى مع جميع الآراء الأخرى! وما دام العراقيون قد جعلوا منهم المرجعية العليا في أخذ القرارات السياسية المصيرية، فإنهم حكموا على أنفسهم بإعادة إنتاج مثلث الطائفة والعرق والدين، المثلث الذي يطحنهم حاليا بالفساد والاستبداد، ويمنعهم من النهوض التاريخي.

يعتقد بعضهم جهلا أن الأمم التي تقدّمت علينا اليوم في مجال الديمقراطية والعدالة والاقتصاد قد اجتثت الدين من أساسه (كما يروج عن التجربة الفرنسية)، أو أضعفته، أو حتى طردته من الفضاء العام إلى الفضاء الخاص. ليس هذا صحيحا، لأن كل ما فعلته هذه المجتمعات أنها جعلت من الفكرة الصالحة فكرة نسبية، ومن المواطنة أصل المجتمع السياسي وأعلى مرجعياته، وكل ما عدا ذلك تحفظ مكانته، لكنه لا يمكنه أن ينتج مرجعية ميتافيزيقية توجه الحياة العامة، من دون أن تُنزع عنها الهالة القدسية، ومن دون أن تخضع للمناقشة وللنسبية.

في العراق، لا يُرى حاليا عند النخب السياسية والمحللين أفق لهذا، فشأن المرجعية الدينية عند اللاعبين السياسيين إما أنه يعكس حدودهم الفكرية، أو أنه يحيل إلى مصلحة النظام. أما عند المحللين فهو "واقعية" سياسية، تفترض أنه لا يتحقق إلا ما يمكن تحقيقه (من دون فتح صندوق "يمكن")، وهذا ليس من صميم الثورات (يقول الشاعر أبو القاسم الشابي: إذا ما طمحت إلى غاية/ ركبت المُنى ونسيت الحذر)، ولا حتى من صميم البرامج الإصلاحية المؤثرة الصانعة للتاريخ الجديد! فهل سيبزغ فجر جديد من بعض المعذبين في الشارع، الذين رأيت بعضهم عبر الشاشة أيضا يُحمّل الجميع (من دون استثناء) مسؤولية هذا الانهيار السياسي والأخلاقي، وهل تلقى هذه التحولات الجديدة العبارات الجديدة المناسبة للتعبير عنها، وتحويلها إلى مشروع انعتاق، بعيدا عن مقولات المرجعية الدينية؟