خلال فترة قياسية، شهدت السياسة الخارجية التركية مؤخراً تحولات يمكن وصفها بالجذرية أو حتى بالانقلاب الدبلوماسي، على صعيد تطبيع وتطوير علاقاتها مع دول عديدة في مقدمتها روسيا ودولة الاحتلال الإسرائيلي والإمارات والعراق.
سياسة تكثير الأصدقاء
استطاعت سياسة «تصفير المشاكل» التي صاغها ثم قادها رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو حلحلة مشاكل تركيا مع معظم دول جوارها، وصياغة علاقات إيجابية معها على مدى سنوات عديدة، بيد أن الثورات العربية وخصوصاً السورية أدخلتها في حزام الاستقطاب بالمنطقة ووترت علاقاتها مع عدة أطراف، في مقدمتها دمشق وموسكو وطهران وبغداد, ومن قبلهم جميعاً تل أبيب.
يمكن تأريخ مرحلة المراجعات والتراجعات في السياسة الخارجية التركية بتولي بن علي يلدرم رئاسة الحكومة بعد ترؤسه حزب العدالة والتنمية في أيار 2016، رغم أنها بدأت في عهد داود أوغلو. وضع يلدرم منذ اليوم الأول عنواناً عريضاً لسياسة بلاده الخارجية, هو «تكثير عدد الأصدقاء وتقليل عدد الخصوم»، وعلى ذلك سارت أنقرة.
عادت تركيا عن التوتر مع روسيا لتنسج معها تفاهمات واضحة المعالم في سوريا جعلتهما دولتين «ضامنتين» لاتفاق وقف إطلاق النار والحل السياسي للأزمة. كما طبّعت العلاقات مع دولة الاحتلال بإعادة السفراء, ويستعد الطرفان خلال أيام لعقد لقاء يحدد مسار العلاقات السياسية والاقتصادية والتعاون الأمني بينهما.
كما عاد السفير الإماراتي إلى أنقرة بعد توتر استمر سنوات، ثم ختمت أنقرة كل ذلك بزيارة رئيس وزرائها إلى العراق معلنة فتح صفحة جديدة في العلاقة معه، بعد تأزمها على خلفية الوجود العسكري التركي بالعراق في معسكر بعشيقة.
أسباب التغيرات
تصوغ تركيا سياستها الخارجية واضعة نصب عينيها عدة عوامل، في مقدمتها مصالحها ومحددات أمنها القومي، ومدى تماسك مشهدها الداخلي سياسياً واقتصادياً، وتطورات الأوضاع في البلاد ذات العلاقة، والتوازنات الإقليمية والدولية، وغيرها.
يمكن رصد عدة أسباب رئيسة لمتغيرات السياسة الخارجية التركية مؤخراً، أهمها:
أولاً: إخفاق أنقرة في فرض متغيرات كبيرة أو إحداث إنجازات تذكر في ملفات المنطقة الرئيسة لا سيما الأزمة السورية، التي تحولت فيها تركيا مع الوقت من دولة إقليمية ذات تأثير كبير إلى جارة متأثرة بارتداداتها عليها. لذلك وإضافة إلى انكسار الثورات العربية في المنطقة، وجب على أنقرة -كداعمة رئيسة لهذه الثورات- أن تقوم باستدارة باتت ضرورية للحد من الآثار الجانبية لمواقفها السابقة عالية السقف. وكان من أهم نتائج ذلك اتجاه تركيا إلى مزج قوتها الناعمة بشيء من القوة الصلبة، تحديداً في عملية «درع الفرات» ومعسكر بعشيقة في العراق.
ثانياً: افتقدت أنقرة التحالفات القوية والمستدامة في المنطقة على مدى السنوات القليلة الماضية، فقد راهنت على «تحالف الديمقراطية» -وفق تعبير داود أوغلو- مع القاهرة بعد ثورة 25 يناير الذي أطاحه الانقلاب في مصر، كما سعت لتحالف عميق ما زال مستمراً مع قطر، لكنه لا يبدو كافياً وحده، ثم حاولت جاهدة مع المملكة العربية السعودية دون نتائج ملموسة، لتجد ضالتها أخيراً في التقارب النسبي مع روسيا.
ثالثاً: توتر علاقاتها مع حلفائها الغربيين (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو) لأسباب عديدة، أهمها الأزمة السورية ودعم الأكراد، ثم الموقف من الانقلاب الفاشل وتبعاته.
رابعاً: تسارع خطوات المشروع الكردي على حدودها الجنوبية، وهو ما من شأنه تأسيس قاعدة لتدريب مسلحي حزب العمال الكردستاني، وإطلاق عملياتهم ضدها من الشمال السوري، إضافة إلى شمال العراق والداخل التركي، وهو تحدٍّ كبير لخطوط الأمن القومي التركي الحمر.
هذا التحدي الذي دفع بتركيا إلى الداخل السوري في عملية درع الفرات بعد سنوات من التحفظ والتمهل، يوازيه خطر آخر يتمثل في سيطرة العمال الكردستاني على سنجار في العراق، وهو ما يبدو أنه دفع بها إلى التقارب مع بغداد وتقديم تنازلات مبدئية في موضوع معسكر بعشيقة، حيث أكد البيان المشترك مع الحكومة العراقية أنه معسكر عراقي، وكرّر العبادي مطالبته بخروج القوات التركية منه، كما لم يزر يلدرم بنفسه جنوده هناك وإنما أرسل إليهم بعض الوزراء.
خامساً: المحاولة الانقلابية الفاشلة التي فاقمت كل ما سبق، وسرّعت خطوات تركيا نحو كسر العزلة عن نفسها وتضييق مساحات الاستهداف وتقليل الخسائر. فرغم نجاح أنقرة في إفشاله، فإن الانقلاب أظهر هشاشة الوضع التركي الداخلي ومدى الغضب الخارجي على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية، الذي وصل إلى مستوى دعم الانقلاب أو السماح بتنفيذه.
وفي المحصلة، وجدت القيادة التركية نفسها مكشوفة الظهر داخلياً ومعزولة خارجياً، وفي مواجهة عدة تحديات خطيرة ومتزامنة، أهمها مشروع الممر الكردي في سوريا والعمليات الإرهابية والأزمة الاقتصادية في الداخل، فضلاً عن الاستهداف الخارجي. وهو الوضع الذي اعتبره أردوغان «حرب استقلال ثانية» تطلبت إعلانه «السفر برليك» أو التعبئة الشعبية العامة في مواجهته.
آفاق المستقبل
يمكن إجمال مسار السياسة الخارجية التركية الحالي في عناوين ثلاثة: تقليل الخصوم، والتقارب مع روسيا، وانتهاج القوة الصلبة. لكن إلى أي حد يمكن أن تستمر أنقرة في هذا المسار؟
لا تبدو تركيا في وارد التراجع عن مسار تقاربها مع روسيا، بل ترغب في تعميق التفاهمات الثنائية ورفع مستوى التعاون معها قدر الإمكان. فمن جهة، لا غنى لها عن استمرار الدعم الروسي لعملية درع الفرات سعياً إلى تحقيق نتائج إيجابية وحمايةً لأرواح جنودها. ومن جهة أخرى، لا يبدو مسار العلاقات التركية - الغربية مبشراً بانفراجات قريبة بعد وصول العلاقات مع الاتحاد الأوروبي إلى شفير القطيعة، وفي ظل تراجع اللهجة التركية المستبشرة بانتخاب دونالد ترمب.
ولئن قررت أنقرة وطهران -منذ وقت بعيد- تحييدَ خلافاتهما السياسية عن مسار العلاقات الاقتصادية، وتجنُّبَ المواجهة المباشرة، والاكتفاء بالتنافس الساخن على الساحة السورية بالوكالة، ورغم أن إيران جزء من معادلة الحل في سوريا ولو جزئياً، فإن الفترة الأخيرة حملت لهجة تركية عالية السقف تجاه طهران، حيث حمّلتها ضمناً مسؤولية عدم التزام النظام بوقف إطلاق النار، وباتت «المليشيات الشيعية» صيغة رسمية معتمدة في الخطاب السياسي والإعلامي التركي. تدفع تركيا الثمن المذكور آنفاً من اقتصادها وأمنها باستمرار تراجع الليرة أمام الدولار إلى مستويات قياسية، وبزيادة وتيرة العمليات الإرهابية على أراضيها، وكلاهما يتغذى من أسباب خارجية بالتوازي مع الأسباب الداخلية بطبيعة الحال. بيد أن من المفيد التذكير بعدم قدرة تركيا على الانحياز الكامل إلى محور ما بالقطيعة مع الآخر، فلم تفعل ذلك مع روسيا سابقاً وهي عضو في الناتو، ولن تقدر على الانفكاك تماماً منه الآن للانضمام إلى «منظمة شنغهاي للتعاون» في حلف استراتيجي مع موسكو. وبالتالي فحالة التقارب المتسارع مع روسيا ستصل إلى حدّ معين لا يمكن تركيا بعده المخاطرة بقطيعة تامة مع حلفائها الغربيين التقليديين، ولا سيما إذا ما قُدّر للأزمة السورية أن تنتظم في مسار سياسي يخفف الضغوط والارتدادات السلبية عليها.
وإلى ذلك الحين وربما بعده؛ ستظل تركيا بين مطرقة التحديات والأزمات المتراكمة والمتزامنة، وسندان الضغوط الخارجية الممارسة عليها، التي تستهدف في المقام الأول التأثير على سياتها الخارجية.