راوحت التصريحات الصادرة عن المسؤولين الأتراك بين تأكيد حرصهم على أمن العراق ووحدة أراضيه وبين الإصرار على عدم سحب قواتها، وصولاً لاعتبار تصريحات الرئيس العراقي (العبادي) «خطيرة ومستفزة» على لسان رئيس الوزراء التركي ونصحه بالاهتمام بما «يجب عليه عمله وليس لوم تركيا» التي تساعده على القيام به.
تشير التقديرات التركية إلى توافق رغبة عدة أطراف بعرقلة مشاركتها في معركة الموصل حتى لا تكون لها كلمة في مستقبل العراق، بينما تسعى هي بكل ما تستطيع للمشاركة بنفسها إضافة إلى القوات التي تشرف على تدريبها في معسكر بعشيقة، أي قوات الحشد الوطني الذين يقدر عددهم بحوالى ثلاثة آلاف، إضافة إلى نحو ألفين من البشمركة العراقية على أقل تقدير.
حسابات ما بعد داعش
من الواضح أن موقف حكومة العبادي تجاه تركيا سياسي بامتياز ولا يتعلق بالسيادة، ليس فقط لعدم اعتراضها على الوجود العسكري لدول أخرى كما تقول أنقرة، ولكن أيضاً لأن المعسكر موجود منذ مدة دون ضجيج، بعد أن نتجت الأزمة التي أثارتها بغداد في كانون الأول الفائت (إثر زيادة أنقرة لعدد قواتها في المعسكر) عن توصية من مجلس الأمن للطرفين بحل المسألة من خلال الحوار الثنائي المباشر.
يتعلق الأمر إذن بمرحلة ما بعد داعش، باعتبار أن من سيشارك في عملية «التحرير» سيساهم في صياغة التركيبة المجتمعية للموصل والسياسية للعراق مستقبلاً، ولذلك فثمة حرص شديد من مختلف الأطراف على المشاركة في العملية، بدءاً من الجيش العراقي وقوات الحشد الشعبي، مروراً بالحشد الوطني والبشمركة العراقية، وصولاً إلى التحالف الدولي وتركيا وحتى حزب العمال الكردستاني، الأمر الذي يضفي على المشهد تعقيدات بالغة.
إصرار أنقرة على المشاركة -مع الأطراف المحسوبة عليها- في معركة الموصل يستهدف ثلاثة سياقات، أولها تقليل مخاطر الاستقطاب الطائفي الذي كان أحد أهم أسباب ظهور داعش في حال مشاركة قوات الحشد الشعبي في العملية واستقرت في الموصل ذات الأغلبية السنّية، وثانيها تثبيت حالة من الاستقرار في المشهد السياسي العراقي بما يمنحها شيئاً من التوازن النسبي في تنافسها مع إيران، وثالثها إعاقة محاولات حزب العمال الكردستاني والمجموعات المرتبطة به لكسب المشروعية الدولية عبر المشاركة في المعركة على غرار ما فعله امتداده السوري «حزب الاتحاد الديمقراطي».
بيد أن الموقف التركي يبدو ضعيفاً بسبب معارضة الحكومة المركزية في بغداد للوجود التركي على أراضيها، فضلاً عن عدد من التصريحات الأميركية التي صبت في مصلحة العبادي ودعت إلى ضرورة التوافق التركي مع الجانب العراقي بخصوص معسكر بعشيقة ومعركة الموصل، باعتبار أن حكومة العبادي ذات سيادة على أراضيها وهي الجهة المخولة بشأن القرار العراقي، وهو ما يضع أنقرة أمام تهديد استصدار قرار يدينها من مجلس الأمن بعد أن تغيّرت بعض الظروف التي منعت صدوره سابقاً على مستوى العلاقة مع كل من واشنطن وموسكو.
تملك بغداد هامش المبادرة من الناحية السياسية القانونية، بينما تتمتع أنقرة بيد عليا عسكرياً وبفعل الأمر الواقع. وإذا كانت تركيا مضطرة إلى احتواء التوتر مع بغداد، والأخيرة غير قادرة على مواجهتها عسكرياً، وإذا كانت ثمة حاجة ملحة لقوات محلية تواجه التنظيم برياً.. فما الحل؟
ثمة سيناريوهات مطروحة تتعلق بالالتفاف القانوني على موقف حكومة العبادي عبر طلب البارزاني رئيس إقليم شمال العراق من تركيا المشاركة، أو مشاركة تركيا ضمن التحالف الدولي لمواجهة داعش، بيد أنها خيارات غير مضمونة وتبدو غير مرغوبة أميركياً، حيث تريد واشنطن أن يكون للمعركة قيادة موحدة ودرجة عالية من التنسيق بعيداً عن الخلافات الداخلية والاحتكاكات الجانبية.
يكمن الحل الواقعي إذن في مبادرة تركية للحوار مع بغداد، وتقديم طمأنات لها بخصوص الوجود العسكري التركي على أراضيها والأهداف المتوخاة منه. تتضمن هذه المبادرة رضى تركيا بإشراف الحكومة المركزية على معسكر بعيشقة والتنسيق الكامل معها بخصوص معركة الموصل والقوات المشاركة فيها، واستعداد أنقرة لتدريب أي قوات تختارها بغداد.
بمعنى الاعتراف بسيادة الأخيرة واحترام قرارها، مع تكريس مشاركة تركيا ضمن التحالف الدولي لتحقيق الأهداف المشتركة، وهي النقاط التي كانت أنقرة قد خاضت نقاشات مع بغداد بخصوصها ووصلت إلى مراحل متقدمة قبل أن يفشلها الضغط الإيراني، وتبدو تركيا اليوم حريصة على إعادة تفعيلها، بوساطة من واشنطن أو ربما موسكو، التي باتت اليوم تتمتع بعلاقة جيدة مع الطرفين.