رفاعة عكرمة

مجدداً يتوجه النظام السوري والمعارضة إلى جولة تفاوضية جديدة في أستانا وجنيف، في ظل الافتقار الدولي إلى الرغبة في حل المأساة السورية. ولهذه الجولة وقع آخر؛ إذ إنها تأتي على مشارف هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وفشل المساعي الاستقلالية لإقليميْ كردستان العراق وكتالونيا، وفي خضم الحديث عن مؤتمر الرياض 2، والمسعى الروسي لحشد في سوتشي.
سيعودون من جولتهم -كما عادوا سابقاً- بخُفيْ جنيف، ربما لافتقادهم الإرادة والقدرة على فعل ما ينبغي فعله، مع استمرارهم في ذات الخطايا الفادحة والمراهنات الكارثية، وهذا واقع يصعُب إنكاره مهما بُذل من محاولات للإنكار وتحميل المسؤولية للسوري الآخر، ومهما رُوّج له من تكفير وطني وإقصاء سياسي وتخوين ثوري وانتقاص فكري وتسلط فئوي. وغير ذلك من محاولات الاختباء خلف التهم الجاهزة والتعميمات المتكلسة، التي لا تعني في المحصلة سوى المزيد من استنزاف سوريا وقتل السوريين. فالإصرار على ذلك ليس إلا هروباً من حقيقة سيخضع لها الجميع يوماً، وإلا فلن تبقى سوريا، فسوريا القهر الاجتماعي والانفراد السياسي لن تعود، وكل محاولات القفز فوق هذه الحقيقة نوع من المشاركة في كتابة فصول جديدة من مأساة آن لها أن تنتهي.
يتوزع الفرقاء بين مقاتل حتى النهاية ليبقى النظام كما هو، ومقاتل حتى يزول النظام، وما بينهما أطياف ترى الحل في بقاء النظام والتكيف معه، وأخرى تشترط رحيله كمدخل للحل، وأخرى تبحث عن رحيل واقعي، وغيرهم ممن يرى في الحال الراهن مكاسب يريد الحفاظ عليها.
وفي المشهد من يتعامل بما يبقيه في فلك الحدث، ومن اختار الانزواء والنأي بالنفس احتفاظاً باسمه لدور يراه في قادم الأيام، وأكبر منهم كلهم جمهور عريض من الشعب يريد حلاً يلحظ أخطاء سنوات الاستبداد والعناد، ويهتم بما عكسته المكابرات إنسانياً واجتماعياً واقتصادياً، ويريد النظر إلى المستقبل بعين واقعية لا بمخيلة رغائبية. والكل يعلم أن فرض حالة لا غالب ولا مغلوب سيكون هو الحل في النهاية، وأن الرهان على عامل الوقت والاستقواء بالعوامل الظرفية ليس إلا شراءً للوهم على حساب سوريا والسوريين.
ومن هنا ينبغي لرجال المرحلة الذين أفرزتهم تفاعلات الثورة ومحطات بناء المعارضة أن يكونوا رجالات الوطن، وأن يأخذوا بالاعتبار متطلبات الخروج من عنق الزجاجة قبل أن يفقدوا وطناً يتآكل وهم يشهدون.
فالسوريون أحوج ما يكونون إلى الرجالات الذين ينظرون إليهم كسوريين بمجموعهم، ويسعون مجتمعين لمستقبلهم كشعب في مجتمع يحضنهم جميعاً، في ظل مؤسسات تعمل لهم جميعاً بلا تمييز أو إقصاء؛ فأين هذا مما يبديه النظام؟ وتقصر عنه المعارضة؟ وكلاهما ينظر إلى السياسة بعين واحدة.
لقد اهتم النظام -عبر تاريخه- بالسياسة الخارجية ودخلها من بابها العريض، وأهمل «السياسة الداخلية» حتى أدخلها في ضيق ما لبث أن انفجر ثورة ملتهبة، وهذه حاله في ما بعد الثورة؛ وكذلك المعارضة التي تركن بمعظمها إلى التحليل والاتصال السياسييْن ظناً منها أنها تمارس السياسة بكلِّيتها، والسياسة إن لم تكن سياسة بما للمدلول من معنى ولحساب الوطن فهي على حسابه.
ولا بدّ للنظام من أن يسلِّم بحقيقة أن انفراده بسوريا وهمٌ لن يطاله، وأن حجم الآلام أكبر من أي قفز فوقها، وأن سوريا جديدة ستولد من رحمها، ولا بدّ للمعارضة أن تأخذ بالحسبان أن النظام ليس رؤوسه ونافذيه، وأن جمهوره ليس طيفاً واحداً، وأن حاضنته تعاني وتتململ، وأنها ليست سواء فيما حملها على اتخاذ مواقفها، وأن أطيافها تراقب وتعي.
حريّ بمن يُخلص لسوريا أنْ يدرك أنّ خلاص السوريين رهن بالعمل وفقاً لهذه المعطيات، ولعل جانب المعارضة هو المعنيّ الأول بإحداث خرق حقيقي لمصلحة سوريا الوطن، تراه جماهير الشعب السوري بعين الاستبشار، ويؤخذ بالاعتبار في موازين السياسة الإقليمية والدولية.
فعلى من قالوا إنهم سعاة لأجل الحرية والكرامة ترجمة ذلك بشكل فعلي، ومن نافلة القول إن التعددية الفكرية والسياسية من مفرزات الحرية، وأنه لا بدّ لها من تنظيم، ولا بدّ لها من قواعد ناظمة، وأدبيات وتقاليد تُبرز الحرص عليها وتعلي من شأنها.
وهنا نجد أن على المعارضة العمل -من خلال الحكومة المؤقتة- على صياغة قوانين ونواظم لتأسيس الأحزاب والجمعيات، يتم بموجبها لمُّ شعث الساحة السياسية وضبط الفوضى الإعلامية، وفرز الكيانات الهلامية التي تفتت المجتمع السوري.
وهذا مدخل لتنمية الممارسة السياسية للمجتمع السوري والاعتناء بها، وإعطائه الفرصة لبناء قواه وحشد طاقاته بتكامل الداخل والخارج سعياً للمشترك الوطني، ومن ثم على مظلتها السياسية الرئيسية (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية) إنجاح تلك العملية واحترام مفرزاتها، وإرساء تقاليد في التواصل الجادّ مع القوى المدنية والاجتماعية والحركات السياسية الناشئة، لتنميتها وإشراكها في العملية السياسية.
وكذلك على الائتلاف التخطيط لتجديد بنيته وآليات عمله بناء على ثمار ذلك التواصل، والعمل بالتوازي على تبنّي رؤية مشتركة لمستقبل سوريا، تترجم بإعلان وطني يعبر عن تطلعات تلك القوى، ويحدد مساحات نضالها المشترك للخروج بسوريا من محنتها، وأسس بنائها كدولة تحترم الحرية وتصون الكرامة.
صحيح أن إدارة الأزمة بمعظمها ليست في أيدي السوريين اليوم، ولكن إدارة الوقت لمصلحتهم ما زالت بأيديهم، وأنهم بحُسن إدارته سيرسمون نهايتها، وأنهم وحدهم القادرون على إدارة الانحياز إلى وطن طال أنينه.}