صابر غل عنبري

بعد فترة صمت رسمي وإعلامي، تخللها الحديث عن توسيط الرياضُ بغدادَ لتحسين العلاقات مع طهران، ما زاد من شعور الأخيرة بنشوة القوة والانتصارات في سوريا والعراق، عاد البلدان إلى التراشق السياسي والإعلامي مجدداً، وبشكل غير مسبوق؛ تجاوزت أبعاده السقف المعهود إلى ما هو أخطر، عبر إلقاء تهمة «العدوان العسكري المباشر» تجاه إيران، من قبل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان؛ الذي أكمل بقوله إن ذلك «قد يرقى إلى اعتباره عملاً من أعمال الحرب ضد المملكة»، وذلك خلال اتصاله الهاتفي مع وزير الخارجية البريطاني، على خلفية إطلاق الحوثيين لصاروخ باليستي باتجاه العاصمة الرياض.
الرابع من تشرين الثاني الجاري لم يكن يوماً عادياً، لا في السعودية ولا في المنطقة برمتها.. مستجدات هذا اليوم ستظل حاضرة في جملة المتغيرات في منطقتنا خلال الفترة المقبلة. شهدت المنطقة خلال أقل من 24 ساعة ثلاثة أحداث مهمة: «إعفاءات واعتقالات تاريخية» في السعودية، و«استقالة» رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، وإطلاق الحوثيين صاروخاً باليستياً باتجاه الرياض. وحدثا الاستقالة والهجوم الصاروخي فجّرا تصعيداً خطيراً بين السعودية وإيران.
 تعزو نخب وجهات رسمية إيرانية أسباب التصعيد السعودي، سواء المتمثل في استقالة الحريري أو الردود الغاضبة على إطلاق الصاروخ الحوثي، إلى «الزلزال السياسي» الداخلي في السعودية الذي أعقب التطوّرين، إذ ينظر إلى هذا التصعيد باعتباره غطاء على هذا الزلزال، ولحرف أنظار السعوديين وغيرهم عنه، من خلال التركيز على «الخطر الخارجي» المتمثل في إيران وحلفائها في المنطقة.
في هذا السياق، تساءل الرئيس حسن روحاني، مخاطباً السعودية: «لماذا تنوون إيجاد مشاكل لآخرين، وتتحدثون ضد جميع شعوب المنطقة؛ من أجل حل مشاكلكم الداخلية؟».
لا شك أن الاقتران الزمني، سواء أكان مقصوداً أم اعتباطياً، دفع السعوديين إلى استغلال الاستقالة والصاروخ للتغطية على الحدث الزلزالي الكبير، تقليلاً أو تصغيراً لهزاته وارتداداته في الداخل. أما اختزال أسباب التصعيد الراهن بالتغييرات التي مست بنية الحكم في السعودية، فيعطي قراءة خاطئة للتصعيد المستجد ومآلاته المستقبلية.
خلال السنوات المنصرمة، شهدت العلاقات الإيرانية السعودية أشكالاً من الأزمات والتصعيد من حين لآخر، بالتالي فالتصعيد بحد ذاته بين الطرفين ليس أمراً جديداً. أما ما يجعله هذه المرة أكثر خطورة ومختلفاً عن سابقاته في الدلالات والمآلات؛ فهي الظروف المحيطة به إقليمياً ودولياً.
ما يجري اليوم يتعدى كونه امتداداً لمسار تراكمي مأزوم بين إيران والسعودية خلال أربعة عقود، وبالذات السنوات الماضية.. القصة أكبر من ذلك، فالتصعيد الإقليمي الراهن هو تدشين أمريكي لمرحلة ما بعد داعش في المنطقة؛ عنوانها «إيران أولاً»، ويفترض أن تدخل فيها مواجهة إيران حيّز التنفيذ.
في هذه المرحلة، سوف يتم توظيف نتائج المراحل السابقة في المنطقة منذ عام 2011، من صراع طائفي واستبدال إسرائيل كعدوّ بإيران، كوقود للمرحلة الجديدة التي ستأخذ فيها مواجهة إيران أشكالاً متعددة وفي أكثر من اتجاه.
ثمة عوامل تدفعنا إلى القناعة بأنه حان الوقت لكي تدخل الحرب الباردة المدفوعة أمريكياً بين إيران والسعودية؛ مرحلة جديدة خلال الفترة القادمة، في ظل تضاؤل فرص الحلول السياسية للأزمات بينهما، وأنها ستذهب باتجاه فصول أكثر سخونة من قبل، ولا يمكن التكهن بمآلاتها؛ إن كانت ستبقى دون سقف المواجهة العسكرية أو تتجاوزها.
 وقبل التعرض لهذه العوامل، لا بدّ من القول إن الصراع الإيراني السعودي ليس منفصلاً عن صراع هو الأكبر بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، بل هو امتداد له وجزء منه.
أهم تلك العوامل؛ أنه أولاً، بعد التخلص من «العدوّ القريب»، أي الإسلام السياسي السني بفعل الثورات المضادة، ووصول الحرب على داعش إلى فصولها النهائية، لم يعد هناك ما يشغل بال الإدارة الأمريكية وحلفائها السعوديين والإسرائيليين؛ أكثر مما يوصف بـ«خطر إيران» وحلفائها، ما يدفع باتجاه احتمال أن دورها قد حان.
ثانياً، توقيت الاستراتيجية التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمواجهة إيران، ورفضه التصديق على التزام طهران خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي) في 13 تشرين الأول الماضي، وكذلك تصعيد واشنطن خطابها العدائي تجاه إيران، ولو أنه غير مقترن بأفعال حتى الآن.. كل ذلك له دلالاته الزمانية الخاصة، حيث أن ذلك كله جاء بينما الحرب على داعش قاربت على نهايتها، ما يعزز ما ذهبنا إليه آنفاً من أن مواجهة إيران وحلفائها ستكون عنوان مرحلة ما بعد داعش في المنطقة.
ثالثاً، إعلان استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري من العاصمة السعودية الرياض، وعبر قناة العربية، التي ينبغي تسجيلها في كتاب «غينس» باعتبارها أغرب استقالة في التاريخ؛ بسبب غموض وشكوك كبيرة تشوبها حول مدى استقلالية الرجل في اتخاذ هذا القرار، في ظل وجود مؤشرات تؤكد أن الحريري أجبر على الاستقالة، أو على الأقل؛ تم أُقنع بذلك تحت الضغط.
أياً كانت ظروف الاستقالة، فجغرافيتها والوعاء الإعلامي الذي أذاعها؛ يبعثان بدلالات ورسائل قوية جداً، أهمها أن إيران هي الجهة المعنية الأولى بالأمر، قبل لبنان.
رابعاً، ردود الفعل الهستيرية التي أبدتها السعودية على إطلاق الحوثيين الصاروخ الباليستي على الرياض هذه المرة، بينما كانت تنفي أو تلتزم الصمت تجاه إطلاق صواريخ أخرى من هذا النوع أكثر من مرة خلال العام الماضي، وهذا يؤكد أن وراء هذه الردود أهدافاً تتعدى مجرد رد فعل على رمي صاروخ لم يصل إلى الهدف؛ وفجرته المضادات السعودية في الجوّ.
خامساً، التصعيد ضد إيران يشكل نقطة التقاء لمصالح الثلاثي: «ترامب - نتن ياهو - محمد بن سلمان» الشخصية. لكن ما هي تلك المصالح؟ يعرف الجميع أن هؤلاء الثلاثة يعانون من أوضاع داخلية مستعصية في بلدانهم؛ تستدعي تصدير الأزمات للخارج، وصرف أنظار الداخل عنها. فملف علاقة الحملة الانتخابية لترامب بروسيا وصل إلى مرحلة حساسة للغاية، كما أن ملفات فساد رئيس الوزراء الإسرائيلي أصبحت تهدد مستقبله السياسي وبقاءه في السلطة، ثم إن «الانقلاب الأبيض» الذي أحدثه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في بنية الحكم الملكي؛ بالغ الخطورة.
هؤلاء الثلاثة اليوم بأمسّ الحاجة إلى أمر جلل ينقذهم، وهذا الأمر ليس إلا التصعيد مع إيران، وربما يصل إلى المواجهة، سواء مع الأخيرة نفسها أو مع أذرعها في المنطقة، وعلى رأسها حزب الله. ثم إن تراكمات العداء بين بلدانهم وإيران على مدى العقود الأربعة الماضية (بعد الثورة الإسلامية في إيران) في ظل الأوضاع الإقليمية الراهنة؛ تسعفهم في تفجير الأوضاع عند نقطة معينة.
 كيف ستكون أشكال التصعيد والمواجهة؟ هل ستتخذ بعداً عسكرياً وحرباً طاحنة؟ هل هي حرب محدودة أو واسعة؟ وهل ستكون مع إيران نفسها أم مع حزب الله؟
لا يمكن تقديم إجابات شافية على تلك الأسئلة الملحة، ما دامت جسامة وأهوال التطورات والمتغيرات وطغيان عنصر المفاجأة عليها؛ تجعل من الصعب التكهن بشيء ما، إن لم يكن ذلك مستحيلاً. مع ذلك، لا يمكن إبعاد أي من الاحتمالات المذكورة في زمن يصبح فيه المستحيل ممكناً. فمن كان يتوقع أن يُعتقل هذا العدد الكبير من الأمراء البارزين في السعودية معاً وفي آن واحد؟ اليوم يحصل ذلك دون أي كابح أو مانع.
ردّ إيران على التصعيد السعودي يوحي بأنها ليست معنية بتصعيد مماثل على «الطريقة السلمانية»، وجاء في هذا السياق إغلاقها صحيفة «كيهان» ليومين، بعد نشرها عنواناً مثيراً حول استهداف دبي بعد الرياض، واعتبار ذلك أمراً يمس الأمن القومي الإيراني.
كذلك استشعر الرئيس روحاني أن السعودية ربما تحضّر لأمر ما، لذلك رد على التصعيد السعودي بمخاطبة الرياض بأن «من هو أكبر منكم لم يستطع فعل أي شيء ضد الشعب الإيراني»، في إشارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
طهران بنفَسها الطويل؛ تفضل اليوم احتواء هذا الموقف دون تراجع في سياساتها الإقليمية. وإلى الآن تم امتصاص ضربة الاستقالة في لبنان، من خلال تركيز حلفاء إيران اللبنانيين على ملابسات الاستقالة والتسمك بالحريري رئيساً للوزراء، ما لم تأخذ استقالته مجراها الطبيعي وفقاً للاعراف العالمية، وبذلك نجحوا في استمالة جميع القوى اللبنانية، بما فيها قوى 14 آذار، حيث ليست قوى الثامن من آذار هي الوحيدة التي تشكك في ظروف استقالة الحريري، وتطالب بعودته. وعليه، أعاد حلفاء إيران الكرة في الملعب السعودي. لا شك أنه إن اتضح أن الحريري أرغم على تقديم استقالته، فذلك سوف يمثل فضيحة تاريخية للسعودية.
مع ذلك، ورغم إظهار إيران أنها باردة الأعصاب، إلا أن القلق يراودها في الوقت نفسه، تجاه تصرفات الملك الفعلي المتحكم بالقرار السعودي، لكونه ترامبي الهوى والمنهج، لايتورّع عن إقحام المنطقة في أزمات جديدة أكثر خطورة من تلك الموجودة حالياً، لا تحمد عقباها.
الخلاصة أن ثمة مؤشرات تعزز القناعة بأن شيئاً ما يجري التحضير له على قدم وساق هذه الأيام، ما يوحي بأن اللااستقرار الإقليمي على أعتاب الولوج في مرحلة خطيرة جداً، في ظل عزوف الجميع عن النزول من أعلى الشجرة، وربما يتجاوز (اللااستقرار) سنوات طويلة من حروب الوكالة الاستنزافية في المنطقة، إلى أشكال جديدة من هذه الحروب، أو مواجهات مباشرة. ولعل الساحة اللبنانية هي المرشحة الأقوى والمحطة الأولى لهذه المواجهات. وعليه، يمكن اعتبار المصالحة الفلسطينية، والتقارب السعودي العراقي، خطوات لتحييد قطاع غزة والعراق - بشكل مؤقت - في أي مواجهة قادمة. كذلك فإن الموقف الأمريكي الغريب من استفتاء استقلال كردستان العراق والأحداث التي أعقبته؛ كان بدافع أن لا يتأثر هذا المشروع.}