سهيل الغنوشي

أعفِي عبد الإله بنكيران من تشكيل الحكومة بعد خمسة أشهر من التعطيل الذي مارسته أحزاب أرادت أن تملي عليه تركيبة الحكومة، ومن ثمّ برنامجها ومسارها بحيث يصبح دوره شكليّاً.
ولعل الغاية الحقيقيّة لتلك الأحزاب كانت إفشال بنكيران ودفع الملك إلى إعفائه، وفرملة حزب العدالة والتنمية، وتعطيل المسار الديمقراطي والمشروع الإصلاحي، بعد أن تبيّن أنّ هذا الحزب مصمّم على المضيّ في طريق الإصلاح إلى النهاية، وأنّ شعبيّته تزيد والشعب يعطيه تفويضاً أكبر في كلّ محطة انتخابيّة.
لم يكن التعطيل مفاجئاً، فشخصيّاً توقّعتُ أن يجد العدالة والتنمية صعوبة كبيرة وقد يفشل في تشكيل الحكومة، وذلك لأنّ قوى الردّة أدركت جيّداً أنّ هذه الانتخابات مفصليّة وقد تحدّد مستقبل المغرب، وأنّه إذا فاز العدالة والتنمية وشكّل حكومة وواصل تطبيق مشروعه وما وعد به المغاربة من إصلاحات، فإنّ المغرب سيقطع خطّ الرّجعة ويتجاوز نقطة اللاّعودة، ويمضي بالسرعة القصوى في طريق الإصلاح.
ولذلك فعلوا المستحيل ليهزموا العدالة والتنمية في الانتخابات، فلمّا فشلوا لم يبق أمامهم إلاّ تعطيل تشكيل الحكومة. وإن كان ولا بدّ أن يشكّل العدالة والتنمية الحكومة -بوصفه الحزب الفائز وكما يقتضي الدستور- فليترأس الحكومة شخص آخر، وليس بنكيران الأقدر على قيادة مسيرة الإصلاح، وذلك بفضل ما يتحلّى به من كاريزما وحزم وشعبيّة وقدرات قيادية وتواصليّة متميّزة.
دعني أوّلاً أستبعد احتمال أن يكون الأمر مرتّباً، أي أنّنا بصدد استقالة أخرجت في شكل إعفاء. فهذه الخزعبلات والتكتيكات والصفقات التي تعوّدنا عليها من الأحزاب العربيّة ليست من شيم العدالة والتنمية الذي عوّدنا على الشفافيّة والمصداقيّة والنّضج، والممارسة الجادّة والأخلاقيّة للسّياسة.
العرض أمام بنكيران كان باختصار: المنصب في كفّة، ومشروعه وكرامته ومصداقيّته وثقة الناخب المغربي والوفاء بالوعود والتعهّدات في كفة أخرى. موقف بنكيران كان سريعاً وحاسماً وثابتاً، ولم يكن ذلك صعباً عليه، فهو لم يتعلّق بالسلطة والمنصب أبداً، وليس لديه ما يخفيه أو يخشاه حتّى يتحصّن بالسلطة.
أمّا بعد الإعفاء، فالحزب يجد نفسه أمام خيارات صعبة. بداية، هل يقبل بترشيح الملك لشخصية أخرى من الحزب لتشكيل الحكومة؟ وما هي تداعيات القبول والرفض؟ وإن قبلوا فهل يقبلون بالشروط التي رفضوها من قبل؟ أمّ أنّ الشروط ستختفي بعد أن حقّقت هدف استبعاد بنكيران من رئاسة الحكومة؟ قد تختفي طوعاً أو بضغط -ولو خفيّ- من المؤسسة الملكية. وإن رفضوا فهل يتبوّأ الحزب مكانه في المعارضة أم يحاول أن يدفع باتجاه إعادة الانتخابات؟
قطعاً ما حدث لم يضع العدالة والتنمية فقط في موقف حرج، بل وضع التجربة المغربيّة كلّها على المحكّ، وسيحدّد قيمة الانتخابات ونتائجها، ومدى إقبال الناخب على المشاركة في انتخابات لا تُحترم فيها إرادته ونتائجها. وقد تكون إعادة الانتخابات المخرج الوحيد لإنقاذ التجربة.
ولو قبلوا ببديل لبنكيران، فهل سيقبلون بشروط الأحزاب التي رفضوها ورفضها بنكيران من قبل؟ فإن قبلوا بها -ولا أظنّهم يفعلون- فسيدخلون في مسار انزلاقي من التنازلات أصعبها التنازل الأوّل.
والنّهاية ستكون تحوّل الحزب من حزبِ مشروعٍ إلى حزبِ سلطةٍ، كما حدث في تونس. والتجارب تثبت أن سياسة استرضاء الخصم لا تؤدّي إلاّ إلى تغوّله وإلى المزيد من الابتزاز، واسألوا البريطانيين والأوروبيين عموماً يحدّثوكم عن تجربتهم مع أدولف هتلر والنّازيين، وعلى أيّ أساس يرفض الحزب شروطاً ثم يعود فيقبلها؟ وأيّ مصداقيّة ستبقى لهذا الحزب؟
ثمّ إن التضحية بالأمين العام ثمّ القبول بالشروط التي أعفِي بسبب رفضه لها، موقف غير جدير بالاحترام. وحتّى إن تنازلت الأحزاب -بطريقة أو بأخرى- عن شروطها فستظلّ أضرار هذا الخيار أكبر من منافعه، خاصة على المدى البعيد.
وبالتالي سيكون أكرم للحزب أن يقود المعارضة ويجعلها معارضة نشطة وفاعلة (والديمقراطية تقوم على ركيزتين: حكومة ومعارضة)، ويظلّ متمسّكاً بمشروعه وثوابته، وما وعد به من إصلاحات يدفع بها من موقع المعارضة ما استطاع. ثمّ يعود في قادم الانتخابات بنفس المشروع والأطروحات، ويطلب من الشّعب تفويضاً أكبر ييسّر عليه تشكيل الحكومة وتنفيذ البرنامج.
هكذا تظلّ السياسة على أصولها: برامج متباينة، كل حزب يعرض برنامجه على الناخب طالباً تفويضه لتنفيذ برنامجه، ويلتزم ببرنامجه سواء كسب الانتخابات أو خسرها، وسواء كان في الحكومة أو في المعارضة.
الخلاصة أنّه ليس أمام العدالة والتنمية إلاّ خياران: القبول بمرشّح بديل، ثمّ بعد ذلك القبول بشروط الأحزاب -إن ظلّت قائمة- أو رفضها بما يعني العودة إلى المربّع الأوّل، أو الاعتذار عن عدم تشكيل حكومة، ثم قيادة المعارضة أو إعادة الانتخابات.
لقد أعطى بنكيران -ومن ورائه حزب العدالة والتنمية- خلال رئاستهم للحكومة، وصمودهم وثباتهم في وجه الابتزاز، ومحاولة التدجين؛ أعطوا للانتخابات ولمنصب رئيس الحكومة وزناً. كما بثّوا في الحياة السياسية روحاً جديدة بحرصهم الشديد على المصداقية والتزامهم الشفافية، فأصبح المواطن المغربي يواكب السياسة ويفهمها، ووجد في العدالة والتنمية ما يطلبه المواطن في السياسي: الصدق والحرص والتواضع، وبذل الحزب جهوداً جبّارة لتصحيح مسار العملية السياسية في المغرب وإرساء دعائم قويّة للدّيمقراطيّة. فلا يسع قادته اليوم التضحية بكلّ تلك المكاسب خضوعاً لابتزاز أو تشبّثا بتشكيل حكومة.
أيضاً على قادة العدالة والتنمية أن يستشعروا جسامة المسؤولية، ويدركوا أنّ التجربة المغربيّة هي التجربة العربيّة الوحيدة التي لا تزال تسير في المسار الصحيح، بعد أن تاهت أو انحرفت أو أجهضت كلّ التجارب الأخرى، وذلك بفضل منهجيّة هذا الحزب وتشبّثه بمشروعه، وحفاظه على مصداقيّته ونقاء مشروعه حتّى بعد أن مارس السلطة، وهي حالة تكاد تكون فريدة.
الدّرس الذي ينبغي أن نتعلّمه من تجربتَي المغرب وتونس، هو أنّه ليس أمام أيّ حزب سياسي يملك مشروعاً إصلاحياً إلاّ واحدة من استراتيجيتين: التمسّك بمشروعه الإصلاحي ومصداقيّته، والمراهنة على الشعب مهما كان الثمن ومهما كانت المآلات، أو التشبّث بالسّلطة مهما كان الثمن والتنازلات، حتّى ولو بالتنازل عن المشروع نفسه أو الثوابت والمبادئ والمصداقيّة.
في المسار الأوّل، إذا وصلتَ إلى السّلطة فبتفويض شعبي لتنفيذ مشروعك الإصلاحي، وإلاّ تدفع به من موقع المعارضة. المهمّ أن تحافظ على مصداقيتك وعلى نقاء مشروعك الإصلاحي.
وفي المسار الثاني قد تجد نفسك تستعمل أساليب مراوغة للوصول إلى السلطة، وقد تجد نفسك مضطرّاً للتخلّي عن كلّ شيء من أجل البقاء فيها، طالما أنّها أصبحت غاية تبرّر كلّ وسيلة.
لا شكّ أنّ ما حدث يمثّل إرباكاً واختباراً للتجربة المغربيّة، ولكن بإمكان العدالة والتنمية -كما فعل ذلك من قبل- أنّ يحوّل الأزمة إلى فرصة لتحديث العمليّة الانتخابية والسياسيّة، أو على الأقل الحفاظ على ما تحققّ من مكاسب.
فالأمل يظلّ قائماً ما دام في البلاد حزب -ذو وزن ومصداقيّة- متشبّثاً بمشروع وطني للإصلاح ومحافظاً على مصداقيّته وعلى نقاء مشروعه. أمّا إذا خضعت الأحزاب الإصلاحيّة للابتزاز والتدجين فكبّر على الإصلاح والديمقراطيّة أربعاً.