العدد 1479 /22-9-2021

كتب ياسر عرمان، وهو مستشارٌ سياسيّ لرئيس وزراء السودان، قبل أيام، مقالاً بثّ خلاله تعليقاً عمّا يتردّد في الشارع السوداني عن احتمالات وقوع انقلابٍ يطيح حكومة الفترة الانتقالية الحالية، فسطّر بالقلم المبين، وبالصوت العالي، أنّ الانقلاب فكرة مستحيلة. وعلى الرغم من استعصاءات تعترض مسيرة الفترة الانتقالية التي جاءت بها انتفاضة شعبية في السودان، وأسقطت نظام عمر البشير، وكان أفدح تلك الاستعصاءات تململ الشارع السوداني من الضائقة المعيشية، فإنّ عرمان يؤكد أن ليس من مجالٍ لانقلاب عسكري يتولى حكم البلاد

من ينظر في خريطة الانقلابات في منطقة الشرق الأوسط يرى أن أول انقلاب هو الذي وقع في العراق في 1936، وشكل بداية مسلسل الانقلابات العسكرية، ثّم تلاه انقلاب حسني الزعيم في سورية عام 1949، ثم تعدّدت المحاولات الانقلابية العسكرية، فكان أشهرها انقلاب 1952 في مصر، لكنه مثّل، تاريخيا، أوّل انقلابٍ يقع في القارة الأفريقية، ثم توالت المحاولات الانقلابية في بلدان الشمال الأفريقي، نجح بعضها وفشل آخر، في السودان والجزائر وليبيا والمغرب وتونس، غير أن ظاهرة الانقلابات العسكرية قد تجاوزتْ منطقة الشمال الأفريقي، وانداحت شرقاً وغرباً وجنوباً في القارة السمراء، بعدما نالت تلك البلدان الأفريقية استقلالها في سنوات النصف الثاني من القرن العشرين. ويجمع المُحللون السياسيون على أنّ وقوع الانقلابات العسكرية في بلدان العالم الثالث قد جاء، في معظمه، بحيثياتٍ حملت إدانة للنّخب المدنية التي تولتْ إدارة بلدانها وإطاحتها، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى أنظمة ديكتاتورية وشمولية غاشمة. وما أطال عمر تلك الأنظمة إلا اتباعها أساليب القهر وسلب إرادة الشعوب والحكم بقبضات حديدية، فهبّت شعوبها لإسقاطها. ذلك ما شهدناه في عام 2011، والذي سماه المحللون مواسم ربيع عاصفة أسقطتْ رياحها بعض أنظمةٍ رسختْ أعواما طوالاً في منطقة الشرق الأوسط والشمال الأفريقي.

على الرغم من التزام البلدان الأعضاء في الاتحاد الأفريقي بما تعزّز في مواثيقه عن حجب الاعتراف بالأنظمة الانقلابية في بلدان القارّة، نجد المنظمة الأفريقية قد تقاعستْ تقاعساً بيّناً في إدانة محاولات عديدة لانقلابات عسكرية وقعتْ أخيرا في أنحاء القارّة.

لم ينجح الاتحاد الأفريقي في التعامل بالصرامة المتوقعة في حالة مصر، حين تولّى الجنرال عبد الفتاح السيسي مقاليد الحكم، وبعدما أسقط رئيساً منتخباً بواسطة شعبه، بحيثياتٍ ملتبسة. ثم توالت انقلابات وتبدلات في أنظمة كل من مالي وساحل العاج وتشاد وغينيا، وأخيرا في تونس. لعلّ حالتي السودان والجزائر بين عامي 2018 و2019 شكلتا استثناءً قلّ أن نجد له شبيها في الانقلابات الأفريقية التي وقعت أخيرا، إذ سارع المكوّن العسكري فيهما إلى التماهي مع الحراك الشعبي، فساعد في إسقاط نظامي السودان والجزائر.

في السودان، وبعد سقوط البشير، تولّى قيادة الوضع الجديد بعد الحراك الشعبي مجلس عسكري. كاد الاتحاد الأفريقي أنْ يدين ذلك التحوّل في السودان، بحسبانه انقلاباً عسكرياً، لولا أن المكوّن المدني في الحراك كان له الصوت العالي، وهو صاحب الكلمة العليا يعد إسقاط نظام "الإنقاذ" عبر حراك شعبي كاسح. مال الاتحاد الأفريقي بعدها نحو إمهال السودان لترتيب أوضاعه، وبأن تكون للمكوّن المدني اليد العليا في إدارة البلاد، فعيّن مُمثلا خاصاً له، كان له الدور الأعظم مع وسيط من الحكومة الإثيوبية، في إجراء مفاوضاتٍ مطولةٍ قربت وجهات النظر بين المكوّنين، المدني والعسكري، قادتْ آخر الأمر إلى ترتيب صياغاتٍ دستوريةٍ لمعادلةٍ جمعت المكوّنين لإدارة البلاد عبر فترة انتقالية مؤقتة، حُددتْ بأربعة أعوام، ينتظر أن تجري بعدها انتخابات قومية، ينتخب بعدها مجلس تشريعي ورئاسة للدولة وحكومة منتخبة ومحكمة دستورية وقضاء مستقل.

تُرى، هل كانت تلك المعادلة التي اقتسمها المكوّنان، المدني والعسكري، قسمة عادلة أم هي ضيزى؟

ذلك سؤال قد لا تصعب الإجابة عنه، لو أمعنّا النظر في المشاكسات وتضارب الأقوال والأفعال بين المكوّن العسكري، الذي احتفظ بصوته العالي في المجلس السيادي الذي يمثل سيادة الدولة، والمكوّن المدني الذي يتولّى، عبر مجلس للوزراء، الإدارة التنفيذية للبلاد. لحق اضطرابٌ في أداء الدولة في السودان، بسبب ضبابيةٍ اكتنفتْ الوثائق الدستورية والقانونية التي صيغت لحكم الفترة الانتقالية، ما أسفر عن ثغرات وتوترات وتضارب واختلاف، خصوصا في ما يتصل بإحلال السلام في ربوع البلاد، والملفات الأمنية والاقتصادية المتصلة به. تلك الضبابية تركتْ كلا المكوّنين يسعيان إلى إخفاء ذلك الاضطراب بمساحيق تجميلية، حافظتْ على الحدّ الأدنى من التماسك بينهما، لكنها لم تخفِ بالكامل خطورة تداعياته وتفاقم مهدّداته.

تظلّ المشاكسات بين المكوّنين، المدني والعسكري، مرشّحة لمزيدٍ من التصعيد، ولمزيد من تكاثر الزعازع التي ستضعف من قدرات المكوّن المدني، مثلما نرى من تطوراتٍ بالغة الخطورة في شرق السودان وأيضاً في غربه، من كياناتٍ ترفع رايات التمرّد على الحكومة المركزية في الخرطوم، بما قد يهيئ البلاد لخيارات كارثية، أقلها الانقلاب العسكري الأبيض الذي قد يتوسّل لقوى الحراك الشعبي لتتسيّد قيادة الدولة مع الإبقاء على مجلس للوزراء، يسيطر عليه مجلس سياديّ عسكريّ بالكامل. أما أسوأ السيناريوهات، فهو أن يعمد المكوّن العسكري لتولّي قيادة البلاد، مع تجاهل المكوّن المدني وإقصائه تماماً فيكون الحكم عسكرياً محضاً، يشجّع قيامه ضعف الاتحاد الأفريقي إزاء الانقلابات التي شهدتها القارة الأفريقية أخيرا، كما قد لا تعارضه بعض الأنظمة القائمة في دول تجاور السودان. وما يقول به المستشار السياسي لرئيس الوزراء السوداني، من استحالة فكرة الانقلاب العسكري، هو قولُ من يرى مخاطر ذلك الخيار الأخير، والذي قد يدخل البلاد إلى أجواء حروب داخلية، وربّما إلى تشظٍ وانقسامات، إنْ لم يترك البلاد لقمة سائغة لأطرافٍ في المجتمع الدولي لها من المطامع ما لها.

تبدو الصورة في السودان قاتمة، وغير ما كان يتوقع لها المجتمع الدولي، بعد حراك شعبه الذي أنهى عزلته، وأعاده بلداً فاعلاً في محيطه الأقرب، وفي تعامله مع المجتمع الدولي المتعاطف، فإذا هو الآن في وضع أقرب إلى التشاؤم منه إلى التفاؤل.

جمال محمد إبراهيم