عبد الفتاح ماضي

منذ أيام قليلة أعلنت السفارة المصرية في الولايات المتحدة التوقيع على اتفاق باسم «توافق الاتصالات والأمن المتبادل» (CISMOA) مع وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، ممثلة في القيادة العسكرية الوسطى بقيادة الجنرال جوزيف فوتيل. وما عُرف عن الاتفاقية -حتى الآن- هو ما تضمنه بيان السفارة، وما جاء في وسائل إعلام مختلفة.
ينص هذا الاتفاق -الذي سبق لدول عربية وغير عربية التوقيع عليه- على فتح قنوات اتصالات مؤمنة ومشفرة بشكل متواصل مع الجيش الأميركي أثناء العمليات المشتركة، والسماح في أي وقت للعسكريين الأميركيين أو عملائهم المرخص لهم بدخول المنشآت العسكرية للبلد المضيف للتأكد من سلامة المعدات.
ويُلزم الاتفاقُ الدولَ الموقعة بعدم استخدام السلاح الأميركي دون موافقة واشنطن، وبالسماح للقوات الأميركية باستخدام المجال الجوي والعسكري والبحري لهذه الدول. كما يسمح للدول الموقعة بالحصول على الأسلحة والصواريخ المحظورة عليها في السابق، مع ربط أنظمة الاتصالات بينها وبين واشنطن، ودفاع أميركا عنها لو حصل عليها اعتداء عسكري.
وفي حالة الحرب؛ تطلب الولايات المتحدة من الدول الموقعة الدعم العسكري واستخدام القواعد العسكرية كمراكز للعمليات، وتكون القوات العسكرية للدول الموقعة تابعة للقيادة المركزية الأميركية (CENTCOM)، وبعض بنود هذا الاتفاق معمول بها من قبل حسب متابعين للشأن العسكري، وبعضها الآخر -كالجزء الخاص بنظم الاتصال والشفرات المشتركة- يقول هؤلاء إنه جديد.
وقد برّر بيان السفارة الاتفاق بأنه يأتي ضمن جهود مكافحة الإرهاب، وذلك رغم أن الأخبار أكدت أن مصر وقعت عليه في كانون الثاني الماضي، بعد سنوات أو عقود من الرفض؛ وهو ما يعني أنه سابق على مسألة الإرهاب وقد، كشف هذا الاتفاق عن نمط متكرر في التعامل مع القضايا الخارجية المصيرية؛ فقد أصبحت السياسة الخارجية تعاني من أمرين جديدين، هما: الانفراد والسرية.
نعم؛ العلاقات العسكرية-العسكرية صارت متشعبة ومعقدة نظراً لتطور تقنية الأسلحة الحديثة ونظم الاتصالات، وقد يتطلب هذا قدراً من السرية، لكن يجب أن تظل هناك ثوابت عليا تتصل بالسيادة الوطنية، وبالأمن القومي المصري والعربي.
ويتطلب ذلك توفر الحد الأدنى من الشفافية، والتقيد بالحد الأدنى أيضاً من الإجراءات المعروفة لصنع القرار الخارجي السليم دستورياً وقانونياً.
إهمال المصالح الوطنية
تعبّر السياسة الخارجية لأي دولة عن المصالح الوطنية العليا لهذه الدولة، التي تُحدَّد في ضوء طبيعة النظام السياسي في الداخل وغاياته وقدراته، وطبيعة البيئة الإقليمية والخارجية ومحدداتها.
وللأسف؛ حدث منذ عام 2013 خلل جسيم في تحديد أسس المصلحة الوطنية المصرية، وضبط بوصلة الأمن القومي العربي، وانعكس ذلك جلياً في تراجع قدرات مصر والدول العربية المتعلقة بالتعامل مع محددات البيئة الدولية بقدر من الاستقلالية، وبما يراعي مصالح الشعوب العربية في المقام الأول. فالثورات المضادة -التي ضربت المنطقة- انعكست على السياسات الخارجية لمصر والدول الداعمة للثورات المضادة. لقد أصبحت ثورات عام 2011 مصدرَ خطرٍ وجودي على تلك الدول، وصار استهداف حركات وأحزاب التيار الإسلامي وقوى ثورات 2011 الهدفَ الرئيسي في سياسات تلك الدول الداخلية والخارجية، وأنفقت مليارات الدولارات من أجل هذا.
لم تعد دولة الاحتلال الإسرائيلي مصدر التهديد الرئيسي لتلك الدول، وصارت إيران وتركيا الخصم الرئيسي لدول عدة في المنطقة، كما استمر استخدام «خطاب الحرب على الإرهاب»، وكذا رفع «فزاعة الإسلاميين» بعد وضع الإسلاميين جميعاً في سلة واحدة، وعدم التمييز بين المعتدلين منهم والحركات المتطرفة المسلحة.
تمّ كل ذلك لتبرير القمع وغلق المجال السياسي في الداخل، ولتمرير صفقات تسليح ضخمة واتفاقيات خارجية مشبوهة، باعتبار أن مصر في حالة حرب مع الإرهاب. ولم يُعرف كيف ستسدد مصر تكاليف تلك الصفقات، ولا الغاية الرئيسية منها، بالنظر إلى أن الحرب على الإرهاب لا تتطلب الأسلحة الثقيلة التي تتضمنها تلك الصفقات.
وحدث خلل آخر هو إضعاف الدور التقليدي لوزارة الخارجية في رسم وتنفيذ السياسة الخارجية، وانفراد السيسي وأجهزته الاستخبارية كفاعل رئيسي في هذا الصدد. لقد كان لرؤساء الجمهورية سابقا نفوذ كبير بلا شك، لكن دون عنصريْ السرية والانفراد اللذيْن سنشير لهما بعد قليل.
الخلل الذي أشرنا إليه في تحديد المصالح الوطنية يفسر القرارات الجمهورية التي صدرت بنقل أعضاء في السلك الدبلوماسي إلى وظائف إدارية، وإنهاء ابتعاث عدد من الدبلوماسيين في الخارج وإعادتهم إلى مصر، وذلك على خلفية «الشك في ولائهم» للنظام أو بتهمة «التعاطف مع الإخوان».
وللأسف؛ اقترن هذا بخطاب إعلامي تحركه أجهزة الأمن ويروّج لشعارات «الوطنية» ومواجهة مؤامرات خارجية، الأمر الذي زعزع الكثير من الثوابت والحقائق بناءً على قناعات زائفة، بجانب أنه تسبب في أزمات دبلوماسية مع دول مثل السعودية والسودان والمغرب وغيرها.
تجاوز الأطر المؤسسية
الخلل الثالث هو انفراد السيسي وأجهزته الأمنية بعقد صفقات واتفاقيات خارجية بشكل سري، دون مشاركة المؤسسات السياسية الرسمية في الدولة، ودون التقيد بالإجراءات التي يحددها الدستور والقانون.
فبجانب الاتفاق العسكري الأخير مع وزارة الدفاع الأميركية الذي أشرنا إليه؛ هناك صفقات الغاز مع دولة الاحتلال، واتفاقيات ترسيم الحدود البحرية مع هذه الأخيرة ومع السعودية وقبرص واليونان، والتنازل عن جزيرتيْ تيران وصنافير، ومنح السعودية ألف كلم2 من سيناءلمشروع «نيوم». وهو مشروع تتطلب أجزاء منه موافقة إسرائيلية، الأمر الذي دفع البعض إلى القول بأنه سيؤدي إلى تدويل منطقة تيران وصنافير ومضيق العقبة بأكمله، وإنهاء سيطرة العرب عليها في أي صراع مستقبلي.
ويمثل اتفاق المبادئ بين مصر وإثيوبيا والسودان الذي وُقّع في آذار 2015- مثالاً آخر على الانفراد في القضايا المصيرية، فقد وقّعه السيسي وتنازل فيه للجانب الإثيوبي دون علم المسؤول الأول عن ملف السد بالحكومة (وزير الموارد المائية والري)، ثم تأزم الأمر مع ضعف الإدارة المصرية للملف، والخلافات المصرية-السودانية الدورية، وتعنت الجانب الإثيوبي. وامتد مبدأ السرية إلى عدة قضايا أخرى لا نعرف بالضبط ما المصلحة المصرية فيها؛ فمصر صارت حليفاً استراتيجياً لإسرائيل حسب المسؤولين الإسرائيليين، والعلاقات المصرية-الإسرائيلية وصلت حداً من التنسيق الأمني لا مثيل له منذ اتفاقية كامب ديفد 1979، ولا يُعرف عنها إلا القليل، ويتم هذا غالباً عبر مقالات في صحف إسرائيلية وغربية، أو من تسريبات لمكالمات هاتفية لشخصيات أمنية أو سياسية مصرية.
ومن ذلك التسريب الصوتي في شباط 2017 لمكالمة هاتفية بين وزير الخارجية المصري سامح شكري ومحامٍ شخصي لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتن ياهو، الذي كشف عن مراجعة المحامي لبنود اتفاقية ترسيم الحدود المصرية-السعودية، وتنسيق الطرفين بشأن تنازل مصر عن جزيرتيْ تيران وصنافير.
كما كشف موافقة شكري على مقترح المحامي بأن مصر لن تعدل الاتفاقية دون موافقة مسبقة من الحكومة الإسرائيلية، وأنها ستواصل تسليم الجزيرتين بغض النظر عن قرارات القضاء في مصر.
وهناك أمثلة كثيرة تعبر عن المواقف المتباينة بين المعلن والسري، فاستهداف مواقع تنظيم الدولة في ليبيا يتم بشكل سري، وبالتنسيق مع خليفة حفتر ممثل الثورة المضادة في ليبيا، فيما لم تعترض مصر على حكومة التوافق واتفاقية الصخيرات التي يفترض أن تقوض قوة حفتر حليف مصر. أما التعاون الأمني مع سوريا فليس معلناً، وهناك دعم مصري علني للتدخل الروسي بسوريا، ورفض لأي تسوية يكون الإسلاميون طرفاً فيها.
قمم واتفاقات سرية
ويبنما يوجد خطاب مصري معلن عن حل عادل وشامل للصراع العربي الإسرائيلي؛ تُعقد قمم سرية بين حكام المنطقة، كقمة اليخت التي تمت برعاية رجل الأعمال الأميركي جورج نادر في أواخر 2015، وجمعت سراً قادة ومسؤولين بارزين من مصر والأردن والإمارات والسعودية والبحرين، لإعادة تشكيل المنطقة بما يسمح بمواجهة تركيا وإيران.
وقبل هذا؛ كشفت صحيفة هآرتس الإسرائيلية عن لقاء سري عُقد في 21 شباط 2016 بمدينة العقبة، وحضره جون كيري وزعماء مصر وإسرائيل والأردن.
وفيما لا يذكر الخطاب الرسمي للحرب في سيناء دوراً للإسرائيليين، نجد أن صحيفة نيويورك تايمز أوردت في 3 شباط 2018 أن إسرائيل شاركت بأكثر من مئة ضربة جوية في الحرب على الإرهاب بسيناء، وأنها تزود الجيش المصري بنتائج عمليات الاستطلاع التي تقوم بها طائراتها في سيناء.
أما العلاقات مع كوريا الشمالية فقد تمت أيضاً في سرية، وبخرق للعقوبات الدولية ضدها؛ حيث نقلت صحيفة نيويورك تايمز عن مسؤولين أمميين وأميركيين قولهم إن مصر تشتري الأسلحة من كوريا الشمالية، وتسمح للدبلوماسيين الكوريين الشماليين باستخدام سفارة بلادهم بمصر كمركز لبيع الأسلحة لدول أخرى.
ويُعتمد مبدأ السرية أيضاً في اتفاقيات أخرى أبرمتها الأجهزة المخابراتية والأمنية، ولم يعرف عنها المصريون شيئاً إلا عبر الصحف الأجنبية، كالعقود التي أبرِمت مع شركات خاصة بالغرب لاستيراد أجهزة تجسس وأسلحة لقمع المتظاهرين، والعقود التي وُقعت مع شركات علاقات عامة أميركية لتحسين صورة مصر بالخارج، وكلفت نحو 240 ألف جنيه يومياً (أي ما يزيد على 13 ألف دولار)؛ حسب ما أعلِن من أرقام في الصحف.
أخيراً؛ لا شك أن المنطقة تُعَدّ لحروب مدمرة بجانب حروبها وصراعاتها الحالية، ولا شك أيضاً أن هناك حاجة دولية لدورٍ مصري محوري في استمرار جبهة ما يسمى الحرب على الإرهاب، وفي ضبط عمليات الهجرة إلى أوروبا عبر المتوسط، فضلاً عن ضمان استمرار مشتريات السلاح الغربي والروسي إلى مصر ودول المنطقة، وضمان وجود أنظمة مرتهنة بتطبيع العلاقات العربية-الإسرائيلية. ولهذا لا يُتوقع تغيير السياسة الخارجية المصرية ومواجهة هذه المخاطر إلا بتغيير المعادلة السياسية داخل مصر (قلب العالم العربي)، ووصول حكومة ديمقراطية منتخبة قادرة على الاستقواء بالشعب والمؤسسات الديمقراطية، وإعادة رسم السياسة الخارجية بما يحقق المصالح الوطنية والأمن القومي العربي، والتعامل بندّية مع محددات ومخاطر البيئتين الإقليمية والدولية.}