عبد الحكيم هلال

 ما حدث مؤخراً في العاصمة اليمنية المؤقتة (عدن) من اعتقالات طاولت قيادات وأعضاء في حزب التجمع اليمني للإصلاح، بالتزامن مع عودة قيادات ما يسمى «المجلس الانتقالي الجنوبي» مباشرة من أبو ظبي؛ قد يحمل في طياته حقائق ومعاني كثيرة، في مقدمتها حقيقة مخيّبة لآمال أولئك الجنوبيين الحالمين الذين تعلقوا بـ«قشة» الإمارات للإبحار نحو حُلم «الانفصال».
فما الذي حدث؟ وكيف خابت الآمال؟ في منتصف عام 2007، خرج أبناء الجنوب اليمني إلى الشوارع حاملين أحلامهم باستعادة دولتهم الجنوبية التي دمجتها وحدة 22 أيار 1990 في شمال اليمن، قبل أن ترديها لاحقاً حرب صيف 1994، وما ترتب عنها من إقصاء وتهميش فرضه المنتصر على المنهزم، كإحدى النتائج الكارثية للحروب الأهلية.
وعلى مدى عقد (2007-2017) ناضل معظم أبناء الجنوب بكل صدق، غير أنهم غالباً ما تعرضوا لانتكاسات مريرة، نتيجة لتلونات وتبدلات معظم القيادات الطارئة. ومن قائد إلى آخر وفصيل إلى آخر، تَنقّلَ الحالمون البسطاء بحثاً عن أمل بين ركام الانكسارات المتوالية. 
جاءت ثورة فبراير/شباط 2011 الشعبية حاملة معها زخماً جماهيرياً جديداً ضخ في أرواح المنكسرين آمالاً جديدة، في إطار مرحلة جديدة تقوم على إزالة العوائق من طريق استعادة الحق.
ومرة أخرى، لم يلبث ذلك الأمل طويلاً في قلوب الحالمين، وهذه المرة شمالاً وجنوباً على حد سواء، حتى باغتته انتكاسة الاجتياح الثاني للجنوب في آذار 2015، من قبل ميليشيات الانقلاب الانتقامية (جماعة الحوثي والمخلوع علي عبد الله صالح).
كاد جنوب اليمن يحترق ويتحول إلى رماد ومعه الإرادات والآمال، لولا أن جاءت المقاومة اليمنية الشعبية المدعومة من التحالف العربي، فاستعادت زمام المبادرة وأفرزت روحاً شعبية جديدة، كان أروع ما ميّزها هذه المرة أن توحدت فيها كل الرايات (شمالاً وجنوباً) ضد عدوّ مشترك، لم يلبث أن انهار سريعاً أمام زخم تلك الروح الشعبية المقاوِمة.
استحقاقات ما بعد التحرير
بعد تحرير الجنوب من الأرتال الانقلابية الدموية القادمة من الشمال، أمكن ملاحظة تلك اللوحة الوطنية الأحدث، التي تشكلت بامتزاج روح ثورة فبراير/شباط (التغييرية) مع روح المقاومة الشعبية (التحريرية)، لتشكل بدورها روحاً جديدة لذلك الجنوبي الثوري المقاوم، الذي تراجعت عنده حظوظ بائعي الأوهام إلى مستوى قياسي. 
وبالعودة قليلاً إلى الوراء، سنجد أن ثورة فبراير مكنت الجنوبيين من استعادة نسبة كبيرة من قرارهم. وبدحرهم فلول الانقلابيين من الأراضي الجنوبية (أيار/حزيران 2015)، كان يُفترض أن يمهد ذلك لاستعادتهم -ولو جزئياً - سيادتهم على أرضهم. لكن ذلك لم يحدث عملياً، بعد أن أصبح الفيل «الإماراتي» في الغرفة!! فما الذي حدث؟
بشكل تدريجي وسريع، فرضت الإمارات سيطرة شبه كلية على كامل الأرض الجنوبية، وشيئاً فشيئاً تمكنت من تحويل القرار من أيدي أبناء الأرض إليها. هكذا تفعل الدول القوية/والثرية، مع الدول الضعيفة/والفقيرة التي تمرّ باضطرابات داخلية، كثمرة من ثمار تدخلها فيها. 
 وفي السياق؛ يمكن دائماً التدعيم بالآتي: لقد امتزج الدم الإماراتي باليمني، وخسرت الإمارات العشرات من قواتها في اليمن بينهم ضباط رفيعون، كما تخسر ملايين الدولارات من خزينتها يومياً لتسيير عملياتها في اليمن، في حين أنها لا تألو جهداً في محاربة كارثة الإرهاب المستشري في البلاد.
حسناً.. ليكن ذلك، ولندع جانباً كل تلك الأحاديث المضادة عن وجود انحرافات جوهرية في مسار قوات التحالف -وبشكل خاص الإمارات- عن أهدافها المعلنة من تدخلها في اليمن، وتشكيل أحزمة أمنية وقوات نخبوية موازية لا ترتبط بالدولة أو السلطات المحلية، وما يروّج من أحاديث حول السيطرة على القرار والأرض والسماء والبحر، وما يتعمده طيرانها من استهداف قوات تابعة للشرعية، وصولاً إلى رغبتها الجامحة في إعادة سلطة الرئيس المخلوع ونجله.
وبالجملة: ما علاقة ذلك بتحقيق الحلم الجنوبي؟ وفي أي اتجاه (سلبي أم إيجابي) سيؤثر ذلك على مسار القضية الجنوبية العادلة؟
طريق ثالث وعر
رغم أنها أصبحت تدعم انفصال الجنوب علناً؛ فإن الإمارات -على ما يبدو- اختطت طريقاً ثالثاً وعراً وغير مباشر لبلوغ غاياتها أولاً، قبل أهداف الحالمين الجنوبيين. إنه طريق ثالث استوجبته تكتيكات الجيوبوليتك، إذ يجب أن توضع أحمال إماراتية إضافية على ظهر المركب الجنوبي، ما يجعل القضية الجنوبية حاملاً محلياً متيناً وسحرياً لتحقيق أهداف أبو ظبي وأولوياتها في اليمن.
 فالإمارات التي بدأت بتبني القضية الجنوبية علنا لتصفية حساباتها مع الرئيس الشرعي للبلاد (عبد ربه منصور هادي)، ها هي تعود مجدداً لتستغل الحلم الجنوبي نفسه في تصفية خصوماتها الخاصة مع أكبر قوة سياسية في البلاد داعمة لشرعية الرئيس هادي.
فحين تقوم أبو ظبي -عبر أدواتها الأمنية في عدن- باعتقال قيادات حزب الإصلاح (ذي التوجه الإسلامي المعتدل) وإحراق مقراته وفبركة الحقائق بشأن ذلك، فإنها -من وجهة نظر الكثيرين- لا تنحرف بالضرورة بعيداً عن قضية الانفصال، بل تستغلها في تحقيق أهداف مرحلية خاصة بها. 
ومع ذلك، هناك من يتنبه إلى أن مثل هذا الطريق ليس آمناً، وهو ما يجعل المركب مهدداً بالانقلاب في أي لحظة قبل بلوغه الهدف. وثمة كثيرون يؤمنون بأن استغلال الإمارات لأدواتها -التي صنعتها باسم القضية الجنوبية لتحقيق غاياتها وتصفية خصوماتها الخاصة- من شأنه أن يشوّه نزاهة القضية، ويهوي بها في وادٍ سحيق لا تعود منه أبداً.   
ويرى هؤلاء أن استهداف حزب الإصلاح في عدن إذا كان جزءاً رئيسياً من سياسة ترسيخ أقدام الإماراتيين في اليمن، فهو ليس كذلك بالنسبة إلى متطلبات القضية الجنوبية وانفصال الجنوب. ليس لكونه متجذراً في عمق المجتمع الجنوبي فحسب، بل لأنه أيضاً أعلن -خلال العقد الأخير تقريباً- مواقف داعمة لحق الجنوبيين في تقرير مصيرهم، رغم اختلافه مع الراديكاليين الانفصاليين في طريقة تحقيق ذلك الهدف.
تداعيات استهداف الإصلاح
وعليه، ونتيجة لتلك الرعونة غير المسبوقة يمنياً إلا من الانقلابيين الحوثيين، والتي أظهرتها الإمارات مؤخراً مع خصومها عبر أدواتها المحلية؛ فمن المؤكد أن ذلك سيبعث مخاوف جدية لدى تلك الفصائل الجنوبية الأخرى، من أن تشملها الانتهاكات، أو يفرض عليها التهميش والاستبعاد من الشراكة السياسية والمشاركة في إدارة مستقبل الجنوب سياسياً واقتصادياً، أو تتعرض لمصادرة أو تقنين الحقوق السياسية، وتوزيع -أو توجيه- الامتيازات الاقتصادية (التجارية والاستثمارية) لمصلحة أولئك الطارئين الذين أصبحوا يدينون بالولاء والتبعية للإمارات، حيث عملت خلال الفترة الماضية على صناعتهم، وما زالت تواصل تسويقهم داخلياً وخارجياً لتثبيتهم كقادة دائمين لا يمكن تجاوزهم.
وفي هذا السياق؛ اعتبر الحزب الاشتراكي اليمني -الذي حكم الجنوب قبل الوحدة اليمنية- أن «استعداء العمل السياسي والمشتغلين به من الأحزاب والأفراد، والتعدي على أي من الحريات الدستورية؛ أمر خطير وشائن، يهوي بالوطن شمالاً وجنوباً إلى مجاهيل كارثية، ويخلي المشهد لسائر النزعات الماضوية ما قبل الوطنية، ويزرع التشظي على نحو بالغ التفتيت».
وأياً تكن أهداف الإمارات من وراء تلك الحملة الأمنية الأخيرة، سواء استهدفت الإصلاح بشخصه، أم تفكيك المجتمع السياسي اليمني برمته، ليخلو لها الطريق لتحقيق غاياتها الجيوبوليتيكية دون مقاومة؛ فإنها -بتصرفاتها تلك- تعكس حقائق بغيضة لدى الشارع اليمني الذي يراقب ما تقوم به من انحرافات عن الدور الرئيسي الذي جاء التحالف لتحقيقه، ما يفقده الثقة بمساعي وأهداف التحالف العربي، في الوقت الذي يضعف فيه من قيمة وتماسك الحكومة الشرعية.
ويحذر مراقبون من أن هذا التمادي الإماراتي، ومواصلة السعودية الصمت على ذلك، سينقلب ضد التحالف الذي قد يخسر المبرر الشرعي لمواصلة أعماله العسكرية في اليمن. وهذا الأمر سيعزز بالتأكيد موقف الانقلابيين داخلياً وخارجياً، ويقوي نفوذ داعمهم الرئيسي في المنطقة (إيران).}