العدد 1336 / 7-11-2018

بقلم : مهنا الحبيل

مثّل مقال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في صحيفة واشنطن بوست، عن الجريمة في القنصلية السعودية في إسطنبول، وإشارته إلى مسؤولية سعودية عليا، من دون تسميتها، مؤشّراً حديثاً في مستقبل الحدث، وأين يتجه التقييم الدولي والإقليمي المشترك للحالة السعودية الجديدة، غير أنه قبل الأخذ بدلالات ذلك المقال والمواقف الإعلامية والسياسية الموازية يجب التوقف لدراسة المواقف التركية وحساباتها، وطبيعة ما يُمكن أن يحصل في التجاذب الإعلامي والسياسي، وما تنتهي إليه أنقرة في موقفها الأخير.

وقد أخذت اتجاهات قضية اغتيال الشهيد جمال خاشقجي أبعاداً دولية واسعة، لا تزال تتفاعل، وخصوصا في موقف كل البنية السياسية في الولايات المتحدة الأميركية. والمقصود بهذه البنية الكونغرس بحزبيه، والإدارة في البيت الأبيض، ثم المؤسسة الأكاديمية والإعلامية الضخمة في أميركا، والتركيز على واقع النظام السعودي، والضغط على الرئيس ترامب بأنه لا بد من استبدال ولي العهد بعد الاعتراف السعودي الرسمي بأن فريقه الخاص شارك في عملية الاغتيال. لكن هذا المشهد الذي لم يحصل مطلقا في تاريخ العلاقات السعودية الأميركية لا يمكن الجزم بانتهائه إلى هذا المستوى من الشروط الأميركية، والتي بعث إليها ولي العهد السعودي رسالة أنه لن يتنحّى، وأن ذلك، بحسب ما يُفهم من كل تجربته، قد تترتب عليه مواجهة خيار التعامل معه أو تحمّل عواقب التصعيد. ومن هنا نفهم مفاوضاته مع الروس، مع بقاء النافذة الأميركية مفتوحة.

هذا ما يعنينا في هذا البحث المهم لتحرّي الدّقة فيه، فخفوت مطلب تنحي ولي العهد، على الرغم من كل ما يجري من ضغوط وارد بعد الانتخابات النصفية للكونغرس، ولكن إعادة تقييم عمر النظام هو الثابت. هذا أولاً. وثانياً، وهو السؤال الأكبر، كم هي حصيلة الفواتير التي سيقدمها الحكم السعودي، من صندوق الدولة، للتسوية مع إدارة ترامب.

"الدوحة، من باب أولى، يجب أن تحذر من أي توريط لها في المشروع الأميركي الذي استخدم في مطلع الأزمة، وفي زمن خطير ضدها" , هنا يمكن فهم موقف تركيا، والتي حرصت على ألا تفوتها حصيلة التسوية مع الرياض، ولكن لمصالحها، فلم تخرق قواعد الاتفاق مع السعوديين، ونقلت قناة العربية خطاب الرئيس أردوغان في البرلمان، واحتفلت بذلك وكالة الأناضول شبه الرسمية. وبدأت مفاوضات الحوار الثاني التي بعث فيها ولي العهد السعودي رسالة تأكيد خاصة إلى شخص الرئيس أردوغان.

وكانت أنقرة قد أسمعت رئيسة المخابرات الأميركية نص التسجيل الصوتي للعملية المتوحشة لاغتيال جمال رحمه الله، وهو التسجيل الذي استمع إليه الأمير خالد الفيصل، فنقل رسالة الرئيس التركي التي توضح خطورة الموقف السعودي. ولكن أنقرة لم تسلّم واشنطن، ولا غيرها، ملفاً تنفيذيا، ونأت بنفسها عن التسوية الأميركية الخاصة لواشنطن والغرب مع نجل الملك وولي عهده، ولعلها حالياً الكاسب الأكبر، فهل تغير الموقف؟

يجب ملاحظة أن الرئيس التركي أيضاً لا يُريد أن تتورط بلاده في تطورات الملف التي قد تنتهي بتسويةٍ معقدة داخل أسرة الحكم، تخوضها واشنطن، ولا تريد أنقرة أيضا أن تكون ضلعاً مباشراً في أي عقوبات أو تطورات، تنتهي إلى سقوط الدولة السعودية. وهنا يقفز بقوة سؤال الدوحة والرياض: ماذا عن قطر التي بعث إليها ولي العهد رسالة خاصة؟ ولماذا لم يتعامل إعلامها مع أي مسافة إيجابية يمكن أن تعنيها هذه الرسالة؟ هل ستُغلق الباب أمام ولي العهد الذي استهدف نظامها وأمن شعبها، وأعلن فريقه الخاص مشاتمتها بكل لغة، وبالتالي لا مساحة معه؟ الأمر ليس كذلك، في تقديري للقراءة الاستراتيجية للدوحة، على الرغم من غضب المشاعر القطرية وغبنها. وطبيعيٌّ مع حجم خطاب الكراهية الحقود الذي صُبّ على أهل قطر أرضاً وإنساناً، الذي لا يزال مستمراً في بعض أطراف مشروع الأمير السعودي، ألا تلتفت الدوحة إلى هذه الرسالة، لكن الأمر لا يقف عند هذه المرحلة، فالدوحة، من باب أولى، يجب أن تحذر من أي توريط لها في المشروع الأميركي الذي استخدم في مطلع الأزمة، وفي زمن خطير ضدها، عبر صفقة ترامب وفريقه. وموقفها الاستراتيجي، كما سجلناه منذ بدء الأزمة، هو الوصول إلى مرحلة فك اشتباكٍ، لا تتخلص فيه من التوتر مع النظام السعودي فقط، بل بتحييد حياتها الاجتماعية والسياسية عن كامل الشأن السعودي، كما حاولت الكويت فعله منذ نهاية الستينات، حتى غزوها من حزب البعث العراقي في آب 1990.

لم تعد الدوحة وحيدة للعمل على تحييد حدودها واستقلالها القُطري عن مستقبل الدولة السعودية وتوتراتها غير المحددة، بل يشمل هذا الأمر كل الدول الخمس في مجلس التعاون، بما فيهم حلفاء الرياض في حصار أهل قطر. ولذلك ستتعامل قطر، بكل تأكيد، مع ما أنتجته الأزمة من كوارث سعودية، دللت للرياض بأنها كانت تُساق إلى المذبح في مشروع أبو ظبي الأميركي، والذي ينقلب اليوم عليها، وستسعى الإمارات إلى الهروب من هذا المستنقع الذي صنعته.

ولكن الدوحة في موقف قوي اليوم، فالأزمة ساعدتها على اتخاذ التأمين الاستراتيجي الجدي في سلتها المتنوعة، ثم انتهى المشهد إلى أن قضيتها أمام الغرب، وأمام واشنطن التي استُعين بها في بدء الازمة، تفضح من صنعها ونظّم حملتها، وأنه الفريق والمرجعية نفسهما في قضية الشهيد جمال، لكن ذلك لن يُلغي تجاوبها مع طلب الرياض المتوقع بطي الأزمة. ولهذا الطي تبعاتٌ، وربما شروطٌ تراها الدوحة لضمان أمنها، كما أن له سياقا في طبيعة العلاقة مع الملفات السعودية، والتي يزداد زخمها عالمياً، لكن البوصلة القطرية ستتعامل مع موفد ولي العهد السعودي، أو رسائله، ببعد أمنها الخاص، والتأسيس لمرحلةٍ جديدةٍ، تُنهي الاشتباك، ولكن لا عودة إلى ما قبله مطلقا، بل استقبال فجر جديد، يحتاج مشروعها الوطني الخاص، مع شراكة العقل العربي المبدع، وتنظيم مشروعها الإعلامي الكبير، بلغة النهضة الفكرية للإنسان العربي المتطلع لمنابرها، من دون ضجيج، ومن خسائر الفواتير الثقيلة.