العدد 1419 / 1-7-2020

ستكون الشهور الخمسة المقبلة الأخطر ليس فقط في أميركا، وإنما أيضاً على العالم. إنها المدة التي تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية في أقوى دولة. وفيما كانت إعادة انتخاب الرئيس المنتهية ولايته، دونالد ترامب، شبه مؤكدة، يبدو أن التطورات أخيراً، التي شهدها العالم وتلك التي كانت الولايات المتحدة مسرحاً لها، قد غيّرت معطيات كثيرة تجعل الرئيس الطامح إلى تجديد ولايته أبعد من أن يحقق حلمه.

أحدث استطلاعات الرأي في أميركا تضع ترامب في وضع خطر، بسبب تصاعد أصوات عدد الأميركيين منتقدي سياساته، خصوصاً طريقة معالجته الكارثية الأزمة الصحية التي تجاوز عدد ضحاياها أكثر من 120 ألف قتيل، أي أكثر من عدد ضحايا أميركا في الحرب العالمية الأولى. وأدّى تعاطيه المضطرب مع الاحتجاجات التي ما زالت البلاد تشهدها، على إثر الحادث المأساوي لمقتل مواطن أميركي أسود على يد عناصر عنصرية من الشرطة، إلى تفاقم الغضب الشعبي ضد الرئيس الذي سعى إلى تقسيم صفوف الأميركيين، بدل توحيدهم في عز واحدة من أصعب الأزمات التي تشهدها بلادهم.

وإذا ما ظل الوضع الاقتصادي الذي كان يعتبر بمثابة حصان طروادة بالنسبة لترامب، في

""تراجع، كما هو اليوم بسبب أزمة كورونا، فإن حظوظه في إعادة انتخابه ستكون ضئيلة، وذلك باعتراف أكبر مستشاريه الاقتصاديين، كيفن هاسيت، الذي حذّر من "كارثة" قبل الانتخابات، إذا تواصل الارتفاع المضطرد لمستويات البطالة غير المسبوقة في صفوف الأميركيين، والتي باتت تناهز 38 مليون عاطل.

وفي حال استمر الوضع كما هو عليه، ولا شيء ينبئ بأن تغيراً كبيراً سيحدث خلال الأشهر القليلة المقبلة، فإن الانتخابات الرئاسية ستشهد أكبر تصويت عقابي ضد ساكن البيت الأبيض. ولكن قبل حلول يوم الاقتراع في الثالث من تشرين الثاني، لا يمكن توقع ردود الفعل المجنونة التي يمكن أن تصدر عن رئيس مزاجي، لا يقيم أي اعتبار للقانون أو المبادئ أو الأخلاق، فلأول مرة يتحدّث مرشح رئاسي عن احتمال استدعاء الجيش للتدخل لإخلاء البيت الأبيض من رئيسه المنهزم. صدر هذا التصريح من المرشح الديمقراطي، جو بايدن، الذي عبّر عن قلقه من "سرقة" الرئيس المنتهية ولايته الانتخابات، أو رفضه القبول بنتائجها.

ترامب اليوم مثل ثور هائج جريح، بسبب الضربات القوية التي تلقاها خلال الشهور الماضية، نتيجة أزمة كورونا والتراجع الكبير للاقتصاد الأميركي، والاحتجاجات المتصاعدة المندّدة بالعنصرية وبانعدام العدالة الاجتماعية، ولن يقبل بسهولة فشله، وسيحاول حتى آخر نفس أن يعاد انتخابه، وهو الذي لم يُخف، ذات مرة، طموحه إلى أن يصبح رئيساً أبدياً لبلاده، على غرار الرئيس الصيني. وخلال الأشهر القليلة التي باتت تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية على العالم أن يحبس أنفاسه ويضع يده على قلبه وأن يتوسل إلى الله ألا تصدر عن رئيس مهزوم نفسياً ومعنوياً قرارات خرقاء لا أحد يمكن توقع حجمها وخطورتها.

السنوات الأربع التي قضاها ترامب في البيت الأبيض تبدو اليوم كأنها دهر لا ينتهي، والخوف اليوم كله من نهايتها: كيف ستكون وليس إلى من ستؤول، فلم يسبق لأميركا أن شهدت رئيساً أهوج مثل ترامب، بلا مبادئ ولا حس إنساني، فصل أطفال النساء المهاجرات إلى بلاده عن أطفالهن الصغار، ووضعهن في أقفاص بلا رحمة ولا رأفة. وأهان كبار موظفيه، بعد أن طردهم من الخدمة، وعاد ليشتمهم على الملأ بأقذع الكلام وأسفه العبارات. وحوّل البيت الأبيض إلى قصر رئاسي لا يختلف عن قصور ملوك العالم الثالث، الكلمة الأولى والأخيرة فيه لبنته المدللة، وصهره النزق الذي بات مستشاره الأول، يقرّر في حياة ملايين الأميركيين، ويسيّر دفة السياسة الخارجية بما يخدم مصالحه التجارية وتوجهاته الصهيونية. وعلى المستوى الخارجي، قطع ترامب علاقات بلاده مع منظماتٍ عالمية، ومزّق اتفاقيات ومعاهدات دولية، ووضع بلاده ومصالحها في مواجهاتٍ مفتوحة على أكثر من جبهة مع روسيا والصين وأوروبا، وأوجد لها أعداء في أكثر من منطقة، بسبب العقوبات القاسية التي فرضتها إدارته على شعوب دول عديدة.

وبعد هذه الحصيلة الكارثية، سيكون السيناريو الأسوأ إعادة انتخاب ترامب لولاية ثانية. وفي هذه الحالة، يجب توقع مزيد من الفوضى العالمية التي قد تنتهي بحروب وكوارث عالمية مدمرة، لأن الرئيس الذي يراعي اليوم أصوات ناخبيه العنصريين من أجل الحصول على ولاية ثانية سيكون طليق اليدين متحرّراً من كل الإكراهات، ما قد يدفعه إلى ارتكاب حماقاتٍ أكبر وأخطر من تلك صدرت عنه.

وحتى في حال خسارة ترامب الانتخابات المقبلة، وتسليمه بنتائجها بدون أن تصدر عنه ردود فعل غير متحكّم فيها، فإن خلفه سيجد نفسه أمام واجب التخلص من إرث ثقيل، نتيجة قرارات سياسات كارثية غير محسوبة العواقب، شوّهت صورة أميركا في الخارج، وأفقدت مواطنين أميركيين كثيرين الثقة بمؤسسات بلادهم، وبسيادة القانون داخلها. وقبل ذلك على الرئيس المقبل لأميركا أن يُلهم الأجيال المقبلة من مواطنيه القيم والمبادئ التي كانت تضع بلادهم زعيمة للعالم الحر. أخطر عمل قام به ترامب، خلال السنوات الأربع الماضية، هو تعريته الوجه الحقيقي للسياسة الأميركية، سواء في الداخل أو الخارج، وإعادة ترميم هذه الصورة قد تتطلّب دهراً كاملاً.. وفي هذه الحالة، يصبح المثل المأثور "وهل يُصلح العطّار ما أفسد الدهر" في الحالة الأميركية كالتالي: "وهل يصلح العطار ما أفسده الدهر"، وترامب كان وما زال عطّاراً بكل المقاييس.