أحمد طه

اهتزّت مصر، صباح الأحد التاسع من نيسان الجاري، على وقع الفاجعة الإرهابية الإجرامية المزدوجة التي استهدفت، بشكل متتابع، كنيستي مارجرجس في طنطا، ثمّ الكنيسة المرقسية في الإسكندرية التي كان الأنبا تواضروس, بطريرك الأقباط الأرثوذكس, يترأّس قدّاس «أحد السعف» فيها، عبر تفجيريْن مُروّعيْن، حيث ضرب الأول القاعة المخصصّة للصلاة، بينما وقع الثاني على أبواب الكنيسة. وقد أودى الانفجاران بنحو خمسين قتيلاً ونحو مائة جريح. ثم أعلن ما يُسمى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في بيان له على شبكة الإنترنت، مسؤوليته عن الجريمتيْن المروّعتيْن، قائلاً إنه جرى تنفيذهما بواسطة انتحاريّيْن بحزاميْن ناسفيْن من أتباعه، بذكر كنيتيهما «الاسم الجهادي»، من دون اسميهما صراحة. وتثير الجريمة أبعاداً عديدة تستحقّ التوقّف والتحليل، وأهمها: 
تُعدّ هذه الجريمة الإرهابية المزدوجة نقلة نوعية كبيرة في عمليات «داعش» الإرهابية، الموجهّة إلى الداخل/العمق المصري، والتي تستهدف المجتمع وليس السلطة، كما هو حال العمليات الإرهابية للتنظيم في سيناء، فهي نسخة شبه مكرّرة من جريمة تفجير الكنيسة البطرسية في قلب القاهرة التي وقعت في منتصف كانون الأول الماضي، التي نفّذها «داعش» أيضاً، وأتبعها بإصدار مرئي، في منتصف شباط الماضي، توعّد فيه باستمرار استهدافه الأقباط، صاحبه ارتكابه جرائم قتل وتهجير لمواطنين أقباط في مدينة العريش، وهو ما يؤكّد مجيئها في سياق تكتيك العمليات الإرهابية ذات الأبعاد الطائفية، والذي بات التنظيم ينتهجه في مصر على غرار ما ارتكبه في العراق، تحت دعاوى الانتقام من الأقباط لمواقف الكنيسة السياسية منذ 3 تموز 2013 وما بعده. 
بعد نحو 48 ساعة على فاجعة الأحد الدامي، بثّ «داعش» تسجيلاً مرئياً تحت عنوان «صاعقات القلوب»، باسم «ولاية سيناء» وليس «الدولة الإسلامية»، وهو في مجمله يأتي في إطار البروباغندا الدعائية «الزائفة» التي يمارسها «داعش» لنفسه، المصطبغة بإخراج «سينمائي» استعراضي لجرائمه، كما يأتي في سياق الحرب النفسية واستراتيجية الترويع التي ينتهجها التنظيم الإجرامي. بالطبع، ثمّة ارتباط وثيق بين تفجيرات الأحد وتوقيت ظهور التسجيل، بهدف استعراض القوّة التنظيمية التي يتمتع بها التنظيم، ومدى الترابط والتماسك بين مركزه وأطرافه، بالإضافة إلى رسالة ضمنية يوجهها «داعش» إلى أطراف المشهديْن الإقليمي والدولي، مفادها أنّه ما زال موجوداً بفاعلية، وهو قادرٌ على التمددّ والانتشار عبر فروعه في الأطراف، لا سيّما في مصر، على الرغم من التراجعات والخسائر التي حاقت به في مركزه الرئيسي بالعراق وسورية، حيث أوشك التنظيم على فقدان عُقر داره الموصل، كما يضيق الحصار حوله في الرقّة، بعدما فقد أجزاء كبيرةً منها، فضلاً عن مقتل عدد كبير من قياداته في الأشهر الأخيرة. 
هذا فضلاً عن حملة شعواء، تصبّ جام غضبها على الأزهر ومناهجه ورموزه، تتهمه (وهو منارة الوسطية والاعتدال في العالم الإسلامي عبر تاريخه الطويل) بتفريخ الإرهاب ورعايته، والتقاعس عن تجديد الخطاب الديني، وقد وصلت ضراوتها إلى حدّ التطاول على مقام مشيخة الأزهر بصورة مؤسفة وغير مسبوقة، في حين أنّ التاريخ الحديث يُخبرنا بأنّه، طوال العقود الماضية، ومنذ ظهور الإرهاب في مصر لم يثبت مطلقاً إدانة أزهريٍ واحدٍ بتهمة العنف والإرهاب. 
سارعت السلطة في مصر إلى إعلان حالة الطوارئ في البلاد ثلاثة أشهر، وتشكيل كيان جديد تحت اسم «المجلس الأعلى لمكافحة الإرهاب والتطرّف». وتُعد الخطوتان امتداداً طبيعياً لنهج، يتمثّل في إغلاق المجال العام، وتأميم المجال السياسي، ومصادرة منافذ الممارسة الديمقراطية» في مواجهة الإرهاب طوال الفترة الماضية، فهي ترى هذا حقّاً للدولة وحدها، من دون المجتمع (هو طرف أصيل في المعركة مع الإرهاب)، بجانب اقتصاره على الحلّ الأمني وحده دون سواه، وهو أمر يحتاج إلى إعادة نظر ومراجعة شاملة، فالحلول الأمنية عامة تتعامل مع العَرَض وليس المرض. وبالنسبة إلى حالة الطوارئ، فهي طريقة سبق أن جرّبناها في عهد حسني مبارك الذي لم يحكم مصر يوماً بدونها، وكان حريصاً على تجديد إعلانها دورياً. 
ومن شأن كل هذه العوامل إغراق الشباب في حالة عارمة من الإحباط واليأس، ما يدفعهم إلى تبنّي خياراتٍ راديكاليةٍ سوداويةٍ، مثل النموذج الداعشي الذي لا يحمل سوى التكفير والقتل للجميع، ويصبّ مباشرة لمصلحة نشر الأفكار المُتطرّفة. كما أنّ التعاطي مع التطرّف بمزيدٍ من القمع والبطش، من شأنه توفير حاضنة مجتمعية لنشر التطرّف، وتوسيع الوعاء التجنيدي له، من العناصر التي وقعت تحت سنابك القمع من ضحايا الانتهاكات والمظالم، والتي تكون مُعبّأة بمشاعر ثأرية ونزعات انتقامية. 
الإرهاب ظاهرة مركّبة في أسبابها، يختلط فيها السياسي بالاجتماعي، بالثقافي، بالهوّياتي بشكل مُعقّد. لكن يظلّ في مقدمتها انسداد آفاق التغيير السلمي، واحتكار السلطة والثروة، وزيادة مساحة المظالم الاجتماعية والتهميش، وانغلاق أبواب الحراك الاجتماعي أمام الشباب، ما يسلبهم الأمل في مستقبل أفضل. 
يبدأ العلاج الجذري للإرهاب بتغيير الواقع القاتم، وتفكيك البيئة المُحتقنة سياسياً واجتماعياً التي تمثّل حاضنته المجتمعية، عبر فتح أبواب الحريات، وإقامة دولة القانون، واحترام حقوق الإنسان.. أمّا تجاهل جذور المشكلة بالتركيز على الحلول الأمنية وحدها فهو أشبه بحرث الماء، أو استنبات في الهواء.}